بمناسبة 6 أفريل (هذه المرة) استدركت "التلفزة الوطنية" (الممولة من دافع الضرائب) قناة "تونس 7" و بثت ليلة ذكرى وفاة الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة شريطا وثائقيا حول مسيرته. و برغم أن نهاية الشريط كانت حول خلفه و برغم القراءة التاريخية المثيرة للجدل و المعبرة عن رؤى الحزب الواحد التقليديةالواردة في الشريط إلا أن إعداد هذا الشريط و بثه يعكس ردة فعل رسمية على مستوى المشرفين على السياسة الاعلامية تقر بتخلف الركب التونسي الرسمي في الاحاطة بهذا الرمز التاريخي، بمعزل عن اتفاقنا و اختلافنا معه. إذ أن الشريط الذي أعدته قناة "العربية" (و سيعاد بثه هذا الاسبوع) حول "زمن بورقيبة" أعاد لذاكرة كثير من التونسيين السيرة المعقدة للرجل..

و الحقيقة أن هناك حالة "بورقيبة مانيا" (Bourguiba-Mania) أو الولع ببورقيبة في السياق التونسي لا يمكن عدم ملاحظتها خاصة في المنابر العامة غير التقليدية مثل فايسبوك... و برغم شعوري بالاحباط لطريقة الكثيرين في كيل المديح الخالي من أي رغبة في قراءة نقدية متوازنة الأمر الذي يصل لما يقارب التقديس و الصنمية بالنسبة للزعيم الراحل إلا أني في ذات الوقت أعتقد أننا يجب أن نتعلم الكثير من لحظة استلهام جماعية مثل هذه.. و عموما تبدو حالة الولع الراهنة مدفوعة أساسا من حالة غياب "الزعيم الملهم" و توق الاجيال الشابة إلى زعيم هلامي قادر على اختراق الآفاق و تحقيق ما يبدو صعبا و حتى مستحيلا... و بهذا المعنى أتفهم تماما حاجة الاجيال الجديدة لهذه النوع من النماذج التاريخية الملهمة... و بشكل ما أعتقد أن أي شعب و أي أمة في حاجة إلى هذا النوع من النماذج حتى بأبعادها الاسطورية الملتبسة (و هنا أعتقد أنه من الضروري تنويع هذه النماذج و شخصيات مثل حشاد و بن يوسف و الثعالبي و غيرهم الكثير يجب أن تدرس كنماذج ضحت من أجل تونس).. لكن في كل الأحوال الخشية كل الخشية من أن هذا التوق يصبح زءا من حالة إعاة إنتاج الاستبداد و ليس تأسيسا لبديل حقيقي

قبل حوالي العام و بسبب ملاحظتي لحالة الولع العارم بمناسبة ذكرى وفاة بورقيبة كتبت مقالا كان في جانب منه مكاشفة شخصية و في جانبه الآخر محاولة للنظر التاريخي و لكن أيضا و خاصة محاولة لمواجهة "الاساطير المؤسسة" للبورقيبية (و ليس بورقيبة الشخص) كما نعيشها اليوم في أذهاننا و مخيلاتنا... المقال الذي صدر في "العرب" القطرية في ثلاث أجزاء أعيد نشره كاملا أسفله

http://208.109.168.188/details.php?docId=80409&issueNo=489&secId=15
http://208.109.168.188/details.php?docId=79714&issueNo=482&secId=15
http://208.109.168.188/details.php?docId=80409&issueNo=489&secId=15
..........................
.................................................................


بورقيبة


1

إذا كان هناك أمر يستحق التنويه في أي بداية لحكاية الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة (وقد مررنا للتو بذكرى رحيله يوم 6 أبريل 2000) يجب أن يكون التنصيص على استحالة تنميط الرجل أو حشره في توصيف ذي بعد أحادي. لكن، مثل غيري الكثير على ما أعتقد، كان عليّ أن أمر بمخاضات مختلفة حتى أفهم ذلك.
كنت من الجيل الذي كان بعضه -إن لم يكن كله- شاهداً على بورقيبة المهترئ، العجائبي، المتكرر إلى حد الضجر قبل وبعد وخلال نشرات الأخبار، في بورتريهات المحلات الفخمة وبيع الفواكه الجافة وحتى أعمدة النور، وأيضا الخرائب. بورقيبة الخطيب «صباحاً مساءً.. ويوم الأحد»، والضاحك أحياناً، الباكي أحياناً أخرى. وجه متقلب محفور بالقديم والعتيق، يتحرك كآلة صدئة، يتكلم بحشرجات تقبل التأويل، حتى تخاله شبح نفسه. هو اسم تونس، أو هكذا أراد أن يكون وأراده أن يكون من تبقى من مريديه. كان اسم الشارع والمقهى والملعب والميناء والمطار ومحطة الحافلات وعربات النقل الريفي. اسم البنايات الرسمية والمنتجعات الترفيهية والجسور. اسم بطولة كرة القدم وكأسها ومنافسات الألعاب المدرسية وإنجازات الفرق الوطنية للرياضات الفردية والجماعية. اسم كتاب التاريخ والجغرافيا. اسم الحركة الوطنية وأعياد البلاد. اسم الشعر الشعبي والأغاني الوطنية والعاطفية إن لزم الأمر. اسم «الجهاد الأكبر» و «الأصغر» على السواء. واسم خطب رئيس الوزراء وبيانات الحزب والحكومة والمنظمات الشعبية والجريدة الرسمية وبداية البثّين التلفزيوني والإذاعي ونهايتهما. كان اسم النكات وأدب السخرية السياسية «تحت الأرضي». واسم هجاء أجيال المعارضين. كان خانقاً. كابوساً لا يشير شيء لنهايته.
كنت تجاوزت الثلاثة عشر ربيعاً بأيام قليلة عندما أيقظني والدي صباح اليوم السابع من شهر نوفمبر العام 1987 ليخبرني أن بورقيبة أزيح من السلطة. اعتقدت للوهلة الأولى أن ذلك امتداد لحلم وردي كنت مستغرقاً فيه ساعات الصباح الأولى، إذ كان بورقيبة شيئاً من أشياء الحياة في تونس. برغم كل الأعاصير السياسية وحيوية القوى «الإصلاحية» و «الثورية» على السواء التي عجت بها البلاد في الثمانينيات لم يكن من السهل تصور سلطة في تونس بدون بورقيبة، ولو أن تلك كانت أمنية شديدة الشيوع. أذكر في تلك الأشهر أني قرأت إحدى الروايات الأكثر جاذبية لغابريال غارثيا ماركيز «خريف البطريق»، حيث ذلك الحاكم المخرف الذي عمر قروناً حتى أصبح جزءاً من قصره البائد واصطبلاته المقفرة وحتى طحالب البلاد. كان من الصعب ألا أرى في صورة الرئيس الراحل تلك الصورة الأسطورية لحاكم أبدي يبيد الحياة قبل رحيله.
الخبر الموالي الذي أسر لي به الوالد هو غياب سيارة المراقبة «الأمنية» التي كانت ترابط بشكل روتيني أمام المنزل معظم سنوات الثمانينيات وحتى قبلها. عندها فقط، وبرؤية العين، فهمت أن الرجل رحل من السلطة. إذ طيف بورقيبة، بالنسبة لصبي مثلي آنذاك، كان طيف سيارات بدون لوحات رقمية، ورجال عابسين يرافقوننا بكل الجدية اللازمة أينما نذهب حتى أوقات السباحة في شاطئ المدينة. كان طيفه حاضراً في زيارات الليل، وأب ملاحق وعاطل عن العمل وفي السجن أحياناً أخرى لنشاطه النقابي والسياسي. كان طيف فقر الأحياء القصديرية وموتى أحداث 26 يناير العام 78 ويناير 1984. كان طيف السجن والسجان، والعصا الغليظة. كان ذلك «بورقيبتي» أنا.. ولم أكن وحدي.
لم يكن ذلك التمثل مزيفاً، لكن كان منقوصاً أو مختزلاً. الآن أبتسم بمرارة عندما أشاهد ما يبدو للوهلة الأولى أنه «نوستالجيا بورقيبية» لدى شبيبة تائهة تبحث في غرف الدردشة والمدونات و «الفيس بوك» ومواقع تقاسم أشرطة الفيديو عن بديل للحاضر من الماضي. ينهض من هذا المدخل بالتحديد بورقيبة من جديد مثل العنقاء. أشعر بسخرية الأقدار عندما أرى أجيالاً «ما بعد بورقيبية» تنحت صورة أحادية فردية لبورقيبة وردي الملامح، «حداثي»، «عبقري»، «سابق لزمانه»، يلامس النبوة تقريباً. لكن أليس «بورقيبتي» أنا أيضاً من نفس الطينة الأحادية الطابع؟
بورقيبة المذموم بالمطلق والممدوح بالمطلق على السواء هو بورقيبة الأسطورة. بورقيبة «أنا» التونسي الفردية. هو بورقيبة الذي ننحته من زوايانا الذاتية تبعاً للظروف السياسية والفكرية التي نخضع لها أو نتمثل خضوعنا لها. وعلى الرغم أن ذلك أمر بديهي إلا أنه يصعب نطقه لمن عاش في زمنٍ بورقيبي أو ما بعد بورقيبي. إذ سيرة الرجل ذات منعطفات حادة ومواقف حادة ولهجة ولغة حادة تدفع بسهولة نحو ردود الفعل الحادة. لكن في السنوات الأخيرة أيضاً بدأ يحضر بصوره المفارقة حتى لدى ألدّ معارضيه. مثل هذه الصورة المفارقة مثلاً هي التي انطبعت لديّ في إحدى السنوات القريبة الماضية خلال زيارة لرئيس الوزراء التونسي السابق، الذي لا تقل صورته أسطورية، أحمد بن صالح، والذي كان في وقت ما أقرب مقربيه قبل أن يصبح أبعد المبعدين عنه في وقت لاحق. بكل الحيوية الممكنة وبصوت بطيء وبعينين متقدتين وصف بن صالح بأدق التفاصيل أحداثاً عاشها مع الزعيم الراحل. لفت انتباهي بشكل خاص صوته المتأثر وهو يصف زيارة قام بها بورقيبة إلى قرية «المكنين» زمن الاحتلال الفرنسي في وقت حصار أمني خانق. كيف ترجل الرجل سيارته وسط سوق القرية ووقف على كرسي وبدأ يخطب في تحدٍ للقوة المحتلة وأجهزتها المحلية عن ضرورة الاستقلال وسط دهشة الجميع حتى معاونه الشاب بن صالح. الأخير الذي ذاق الكثير من اللحظات المرة على أيدي الرئيس الراحل لم تنتقِ ذاكرته القوية صوراً أحادية الطابع لغريمه السياسي الراحل. لم يستطع أن ينسى الصورة الفسيفسائية لبورقيبة.
من حسن الحظ أننا نعيش الآن زمن القراءات المتعددة لبورقيبة وليس زمن قراءاته الأحادية فحسب. بدأ زمن المؤرخ الذي يمحو ببطء ولكن بثبات أيضاً الصورة الأسطورية لبورقيبة. وفي هذا السياق يلعب منذ سنوات أستاذ أجيال من المؤرخين التونسيين السيد عبدالجليل التميمي دوراً محورياً من خلال «مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات» في إعادة الاستكشاف التاريخية لبورقيبة. إذ أشرفت المؤسسة الأخيرة، وهي من الأطر التونسية غير الحكومية النادرة التي تقوم بعمل جدي في مجال الإنسانيات، على ندوات علمية جمعت مؤرخي تونس المعاصرة وعلى جلسات تم فيها «استنطاق» شهود قريبين من البورقيبية زمناً ورؤية وقامت بنشر كل ذلك في عدد من الكتب خاصة منذ سنة 2000. ترافق ذلك مع نشر سلسلة كتب لصحافيين ومذكرات شهود آخرين بدأت تتلمس بشكل متزايد الطبيعة المعقدة للرئيس الراحل.
لكن في الوقت نفسه يسترجع بعض التونسيين بورقيبة، خصوصاً في ذكرى رحيله، في صوره المختزلة الأحادية وفي أحيان كثيرة كمخلص لم نكتشف حقيقته إلا بشكل متأخر. يعود كمشروع لتغيير الحاضر، مضفياً مشروعية محلية وتاريخية على سياقات فكرية وسياسية في حاجة للمشروعية تحت غطاء كثيف من الشعاراتية «التقدمية» و «الحداثية». وبهذا المعنى فإن نقد «الأساطير المؤسسة» لبورقيبة والبورقيبية تبدو مهمة محورية ليس للمؤرخ فحسب بل أيضا للتونسي المستغرق في مهام الراهن

2

«التحديث يطرح دائما التحدي ذاته، أي حقن روح عقلانية ووضعية يقف أمامها الإسلام عاجزا تماما».
دانيال ليرنر (Daniel Lerner)، «تجاوز المجتمع التقليدي» (1958).

تلعب الأساطير دائما دورا يتجاوز أبطالها، حيث تصبح أداة لا تعيد خلق الأوهام فحسب، بل أيضا تصنع الوقائع، أو في أقل الأحوال تتجاوب مع رغبات واقعية لتوفر لها مشروعية ما. هكذا هي البورقيبية الآن، ميراث للتأصيل السياسي وحتى الفكري لمن ضجر من الابتعاد عن «أصول وطنية» في استثماره للعمل السياسي. الأمر المفارق أن البورقيبية تستعيد نجوميتها من قبل ضحاياها، وبالتحديد من خلال إعادة إنتاجهم لأحد أهم أركانها.. أن سيرة الزعيم هي سيرة الوطن، وأن في سيرته يمكن أن نجد البنى المؤسسة للمستقبل. ومرة أخرى يجب علينا أن نستمع إلى سرد جوهراني-تطوري لـ «تاريخ الوطن»، حيث هناك جوهر «نتقدم» نحوه، وبورقيبة هو مرحلة تحقق فيها هذا الجوهر «التجديدي». ومن بين «الأساطير المؤسسة» للبورقيبية والمستعملة في السياق الراهن كرأسمال سياسي بطرق معقدة أو شعبوية، هناك نموذجان يستحقان التفكيك، أسطورة البورقيبية «الحداثية-العلمانية» وأسطورة البورقيبية التي كانت «حكيمة» و «ريادية» في طرح «حل الدولتين» فيما يخص الصراع العربي-الإسرائيلي. سأتعرض هنا إلى الأولى لأترك الثانية إلى المقال القادم.
في صيف 2004 التقيت طيف بورقيبة حيث لم أكن أتوقع لقاءه. كانت زيارتي الأولى إلى اسطنبول ذلك الصيف في سياق الإعداد لرسالة الدكتوراه، والتي قادتني إلى مخطوطات نادرة محفوظة في مكتبات عامة وخاصة. وفي أحد الأطر من النوع الأخير، التقيت بمجموعة من المسنين الأتراك المتدينين والمحبين للمعرفة خاصة ذات الخلفية التاريخية الإسلامية. وفي الوقت الذي كنت أتوقع فيه حوارا حول مخطوطات ابن حوقل، انهالت علي ألسن أصدقائي الجدد تكرر أمرا واحدا بعربية طفولية: «ما رأيك في بورقيبة؟» كان من الطبيعي أن يستذكر مسنون أتراك في بداية القرن 21 سيرة تونس بسيرة الزعيم الراحل. ما كان مثيرا للانتباه في المقابل، هو شغفهم الكبير بتجرؤ بورقيبة في قول ما كانوا يرغبون قوله عاليا عندما زار تركيا سنة 1965 وألقى خطابه الشهير أمام البرلمان يوم 25 مارس منتقدا فيه توجهات أتاتورك في إلغاء الخلافة العثمانية و «فرض اللائكية» واستنساخ التجربة التحديثية الفرنسية. سرد لي أصدقائي الشيوخ بحيوية لافتة ما ترسب لديهم من تلك الزيارة. لم يكن هؤلاء المسنون الأتراك إسلاميين، بل كانوا أتاتوركيين شديدي الاعتزاز بـ «مؤسس الدولة» (الذي كانت صوره تؤثث أركان المكتبة)، لكن كانوا منتقدين لرؤية الزعيم التركي الراحل لعلاقة الدولة بالدين. نعرف الآن أن هؤلاء كانوا في الواقع تعبيرا عن جيل تركي جديد أعاد تعريف الأتاتوركية بصمت منذ خمسينيات القرن الماضي، لتصبح إيديولوجيا الدولة الوطنية، ولكن لتعيد تعريف تركيا من خلال غالبيتها المسلمة في مواجهة «الخطر الشيوعي» الداهم من الشمال. كل ما قام به بورقيبة آنذاك هو التصريح بواقعية التوجهات التركية الجديدة.
كان بورقيبة بالنسبة لهؤلاء «زعيما مسلما» بالأساس يدافع عن دور رسمي للدين. كانت تلك الصورة مفاجئة بالضرورة حتى بالنسبة لتونسي لا ينظر إلى بورقيبة من زاوية علاقته بالدين، فما بالك إذا أضفنا إلى ذلك كل الميراث المتعلق بتصادم بورقيبة مع «الإجماع الديني» مثلما حصل في حادثة إباحة إفطار رمضان في إطار «الجهاد الاقتصادي» (فبراير 1960). لكن هي صورة متعارضة بالأساس مع صورة «الزعيم اللائكي» المنتشرة الآن كالفطر. بعيدا عن التمثلات الانطباعية نعرف الآن ما يكفي من المعطيات (مثلا مثلما بينت بعض مداخلات ندوة «الحبيب بورقيبة وإنشاء الدولة الوطنية» سنة 1999 وندوات أخرى بعدها لـ «مركز التميمي» وكذلك كتاب «الزعامة والإمامة» للصحافي لطفي الحجي) التي تشير إلى أن بورقيبة لم يقم بأي إصلاحات اجتماعية عبر مؤسسات الدولة من دون الحرص على «تأصيلها» بأي شكل من الأشكال من الزاوية الدينية. أول وأهم المدونات القانونية التي دفع بها إلى الأمام -أي «مجلة الأحوال الشخصية» (1956)- لم تكن سوى صياغة جديدة لـ «لائحة الأحكام الشرعية» التي أشرف على صياغتها الشيخ محمد العزيز جعيط منذ سنة 1948 وشارك في إحيائها بعد الاستقلال وزير العدل أحمد المستيري. وبرغم أن المجلة كانت مثيرة لجدل واسع فور إعلانها خاصة من قبل أوساط شيوخ الدين التونسيين، وبمعزل عن الجدل حول مدى «تطابقها مع الشرع»، فإنه من اللافت دفاع القانونيين التونسيين آنذاك عنها من زاوية «تطابقها مع روح الإسلام» (خاصة في مقالات في «مجلة القضاء والتشريع» التونسية).
ليس من الصعب ملاحظة حرص بورقيبة الدائم على التعامل مع المسائل الدينية من داخل المنظومة الدينية وليس من خارجها. كان يرغب في التصرف ليس كـ «مصلح ديني» فحسب، بل كرجل الدين الأول في البلاد، رغم عدم توفره على ما يكفي من الأدوات المعرفية للمتفقهين الدينيين للقيام بذلك، وهو ما وضعه بشكل متكرر أمام صدام عنيف مع الأوساط الدينية. الخطاب الذي جلب إليه تكفير مشايخ محافظين (18 مارس 1974) كان بالأساس في سياق يحاول التركيز على الهوية الإسلامية لتونس زمن صعود تيارات يسارية راديكالية في البلاد. إذ التركيز الوارد في الخطاب على خطورة «التطاحن» وضرورة الحفاظ على «الشخصية التونسية» المتماهية مع الإسلام الذي أنهى التطاحن القبلي العربي كانت قراءة مسيسة ومتدينة في الوقت نفسه للواقع السياسي التونسي منتصف السبعينيات، تحاول في نهاية الأمر تصوير الصراع السياسي القائم آنذاك ضمن سياقات التطاحن القبلي المضاد للإسلام. لكن الأهم أنه من العنوان (الإسلام دين عمل واجتهاد) إلى مقتطفات الخطاب بما في ذلك الاستشهاد المتكرر بما قدمه بورقيبة على أنه سيرة وأحداث خاصة بالرسول في سياق التأكيد على رؤى تتعلق بالحاضر، هي في الجوهر لا تختلف بأي حال عن خطاب «الإمام-الأمير»، وهو نموذج في الحكم لم يتكرر كثيرا عبر التاريخ الإسلامي لكن يمثل -يا للمفارقة- أقصى تمظهرات الدولة الدينية، بمعزل عما إذا كان توصيفنا لهذا الخطاب «إصلاحيا» أو «رجعيا» أو «خارجا عن أصول الشريعة». هذا الوضع جعل بورقيبة بديلا أو وسيطا من موقع الرئيس عن سلطة رجل الدين. ومن اللافت أن إدراج مادة الدستور الأولى («تونس دولة دينها الإسلام») تم على إثر توافق توصل إليه بورقيبة بين رأي الشيخ محمد الشاذلي النيفر (الذي طالب بإدراج جملة «تونس دولة عربية إسلامية») ورأي الباهي الأدغم الذي اعترض على هذه الصيغة (مراعاة للمجتمع الدولي)، وذلك حسب شهادة مصطفى الفيلالي في جلسة في «بيت الحكمة» منذ حوالي العام (نقلا عن جريدة «الصباح» التونسية 8 مايو 2008). وفي الواقع لم يقم بورقيبة بما هو غير متوقع عندما تمسك وحتى رفاقه بتصريف الدولة وحتى احتكارها للشأن الديني.
أسطورة «بورقيبة اللائكي» هي جزء من أسطورة «بورقيبة الحداثي». ويجب التوقف هنا عند تمييز منهجي ضروري بين «نية التحديث» و «تحقق الحداثة». كان بورقيبة يمارس نسخته الخاصة لـ «نظرية التحديث» (modernization theory) التي ازدهرت بشكل خاص في نهاية خمسينيات القرن الماضي. دانيال ليرنر (المذكور أعلاه) أحد أهم مهندسيها، كان تعريفه للحداثة خاصة في المجال العربي (مجال اختصاص ليرنر) يقتضي بشكل رئيسي استعمال آلة الدولة بشكل قسري لاستنساخ حداثة تعتبر أن المشكل الرئيسي الذي يسمح بتحققها هو نقض التأثير الديني. كان أتاتورك نموذج هذه الرؤية. الفرق الوحيد أن بورقيبة لم ينقض سلطة القول الديني بقدر ما حاول توظيفها لـ «إصلاحه». لكن في كل الأحوال، ومثلما توصل النقد ما بعد الحداثي لـ «نظرية التحديث»، خاصة مع أزمة الدول العربية ما بعد الكولونيالية في نهاية الثمانينيات، كان هذا «تحديثا ساذجا». إذ كان في نهاية الأمر متناقضا في الجوهر مع فلسفته الحداثية بمجرد تعويله على مفهوم قهري لسلطة الدولة يصل حتى تهميش التسيير الديمقراطي ويصطنع «تطورا» تشريعيا غير مؤسس على سلطة الاختيار الديمقراطي ليفسح المجال لـ «الرجوع إلى الوراء» في أي وقت. والنموذج البورقيبي للدولة «الحداثية» لم يكن قسريا ومستبعدا للتسيير الديمقراطي فحسب (تحت شعار «الحرية المنظمة»)، بل كان مشخصنا بشكل فارق، يسترجع أكثر نماذج عبادة الشخصية الكاريكاتورية. وذلك ما لا نحتاج حتى أن نفصل فيه.

3

«سياسة الكل أو بلاش هي التي أوصلتنا إلى هذه الحالة.. لو رفضنا الحل المنقوص كما رفض العرب التقسيم أو الكتاب الأبيض بعدها سيندمون عليه ويقولون يا ليتنا لو قبلنا لكانت حالنا أفضل مما هي عليه الآن» -بورقيبة، في أريحا، 3 مارس 1965.

أكبر وأوسع الأساطير البورقيبية انتشاراً تلك المتعلقة بنظرته إلى الصراع العربي- الإسرائيلي. هنا أيضاً يتعين علينا أن نشاهد واحدة من صورتين لا ثالثة لهما: من جهة أولى بورقيبة «العقلاني» و«الواقعي» و(إذا دخل المتملقون والممجدون المحترفون على الخط) «السابق لعصره» المجرد من السياسوية. ومن الجهة المقابلة تتراءى صورة «العميل» و«الخائن» وهي الرؤية التي تبناها خصومه حتى فترة قريبة جداً إن لم يكن إلى هذه اللحظة. ما يثير الانتباه ولكن أيضا الريبة وحتى الاشمئزاز (خاصة) نجاح الخطاب الدعائي المردد لشعارات «الحكمة» و«الواقعية» في التسلط حتى على رؤى مؤرخين محترمين أصبحوا في نهاية الأمر يتمثلون الخطاب الروتيني للبيروقراطية البورقيبية. فرغم الاحتفالية المبالغ فيها إعلامياً وحتى أكاديمياً بهذا الموضوع فإن القليل من البحوث استطاع مسح ما يكفي من المصادر الأرشيفية حتى يمكن الاستماع لخلاصاتها، ومن بين هذه الدراسات القليلة تلك التي نُشرت من قِبَل مايكل لاسكير (Michael Laskier) والطاهر الأسود.
يقع التأريخ للموقف البورقيبي في حل القضية الفلسطينية عادة بدءاً من الخطاب الذي ألقاه في أريحا في مارس 1965. ولكن هناك من يشير أيضاً إلى تواريخ سابقة بعض الشيء مثل خطابه غير المنشور في القمة العربية في يناير 1964 أو في أقصى الحالات وثيقة يتيمة أشار إليها عبدالجليل التميمي ترجع إلى سنة 1957. وجميعها يشير إلى نفس النقطة، أي: ميل بورقيبة للاعتراف بقرار التقسيم ومن ثَمَّ الاعتراف بإسرائيل كنقطة لبدء عملية «تحرير فلسطين» بشكل محصور بالفلسطينيين. وعموماً يقع تلخيص كل الانخراط البورقيبي في هذه النقطة في مقتطفات «خطاب أريحا» مع تقديمها كحِكم أزلية مفصولة عن أي معطيات سياسية خاصة ببورقيبة (كنبيّ قادم من بعيد). غير أننا نعرف الآن من خلال كمّ هائل من المصادر الأرشيفية خاصة المحفوظة بين الولايات المتحدة وإسرائيل أن تاريخ النظرة البورقيبية ليس أسبق من ذلك فحسب، بل الأهم أنها أكثر تعقيداً بكثير مما يريدنا البعض أن نتصور.
أصبح من الضروري أن يُروى السرد التاريخي لهذا الموضوع كالتالي: بدأ الاهتمام البورقيبي بإسرائيل في سياق التحضير للمعركة الدبلوماسية لاستقلال بلاده والتأسيس لتحالف دولي للضغط على الاحتلال الفرنسي. في يونيو 1952 تم أول لقاء بين مسؤول يمثل بورقيبة (الباهي الأدغم) وممثل إسرائيل في مقر الأمم المتحدة في نيويورك في إطار «طلب الدعم الإسرائيلي» لمطلب الاستقلال التونسي وفي الشهر نفسه صرح بورقيبة لجريدة «لوموند» الفرنسية بضرورة القيام بـ«تسوية سياسية» بين العرب وإسرائيل. وأكد بورقيبة الموقف نفسه عندما التقى لأول مرة شخصية مهمة في الدوائر الدولية الإسرائيلية ألك إيسترمان مدير مكتب لندن آنذاك لـ«المؤتمر اليهودي العالمي» في منفاه الباريسي سنة 1954. حسبما يتبين من وثائق لاحقة من مرحلة «الاستقلال الداخلي» خاصة منها تقرير يوثق (في شهر فبراير العام 1956) لقاء بورقيبة مع السفير الإسرائيلي في باريس ياكوف تسور. نصح الأخير بورقيبة بأن عليه «ضمان دعم اليهود الأميركيين للحصول على دعم اقتصادي أميركي». وتبدو هذه كلمة السر فيما يخص خلفية الموقف البورقيبي من الصراع العربي- الإسرائيلي منذ بدايته، أي حتى قبل الاستقلال. إسرائيل هي المفتاح للولايات المتحدة. المشكلة أن بداية هذه العلاقة (أي قبل الاستقلال) كانت مخيبة للآمال بما أن الإسرائيليين رفضوا التعامل مع الطلب التونسي بسبب استمرار مراهنتهم على الاحتلال الفرنسي كضمان لتواصل تهجير اليهود التونسيين إلى إسرائيل القائم على قدم وساق آنذاك وبإشراف «الموساد» ذاته (حسب وثائق لاسكيير) في مختلف المدن التونسية.
بعد الاستقلال كان (أيضاً) الاهتمام البورقيبي بإسرائيل مرتبطاً ظرفاً ومضموناً بالرغبة في الحصول أساساً على مساعدات اقتصادية أميركية وهو هدف معلن تمت الإشارة إليه قبل الاستقلال خلال اللقاء مع تسور في فبراير 1956. في لقاء بين السفيرين التونسي والإسرائيلي في باريس في أكتوبر 1956 تم الاتفاق على «تعاون اقتصادي بين البلدين». لكن التطورات التي أدت إلى اصطفاف بورقيبة إلى جانب الثورة الجزائرية و«معركة الجلاء» و«الجلاء الزراعي» يبدو أنها خلقت نوعاً من الفتور بين الجانبين وهو الأمر المنعكس في تقلص كبير للوثائق الأرشيفية الخاصة بالموضوع حتى سنة 1965.
الأشهر السابقة واللاحقة على «خطاب أريحا» في مارس 1965 تمثل الظرفية الأهم لتفسير الموقف البورقيبي خلال زيارته «الشرق أوسطية». قطع المساعدات الفرنسية، خاصة بعد إعلان «الجلاء الزراعي» في شهر مايو سنة 1964، أدى إلى اهتمام بورقيبة بتنويع مصادر المساعدات الدولية وعدم الارتهان للمصدر الفرنسي. كان ذلك يعني الرجوع إلى الورقة الأميركية وبالتالي الرجوع إلى الورقة الإسرائيلية. الوثائق تشير إلى التسلسل الآتي للأحداث: تشير مذكرة (اطلعت عليها بشكل مباشر) بتاريخ 18 ديسمبر سنة 1964 إلى ملاحظات من قِبَل مسؤول الخارجية الكولونيل روبرت كومر على ضوء لقاء مسؤول أميركي مرتقب مع وزير الخارجية التونسي بورقيبة الابن، تشير إلى عدم استعداد أميركي لزيادة المساعدات الاقتصادية لتونس بل واحتمال تخفيضها، بالإضافة إلى تذمر أميركي بأن «المعتدلين» في شمال إفريقيا لا يبدون علنيا دفاعا عن تشابك مصالحهم مع المصالح الأميركية. ثم تنقل وثيقة أخرى إثر «خطاب أريحا» بشهرين (مايو 1965) محتوى زيارة وزير الخارجية بورقيبة الابن إلى واشنطن طلبت إثرها الولايات المتحدة التوسط لتونس لضمان دعم مالي من الحكومتين الفرنسية والألمانية الاتحادية بقيمة 20 مليون دولار. وتشير الوثائق إلى أن الموافقة الإسرائيلية على الاستجابة للمطالب الأميركية كانت في إطار أملها أن تسهم الحكومة التونسية في تشجيع حكومات عربية «معتدلة» أخرى من أجل «إفشال أو تخريب الجهود المصرية والسورية للوحدة العربية». تواصل الوثائق التي يكثر عددها خلال هذه الفترة الحديث عن تقارب بين الطرفين استمر بشكل متسارع وحثيث طيلة سنة 1966 ليصل حتى مجالات أمنية وأيضا دعم إسرائيلي لترشيح بورقيبة لنيل جائزة نوبل عبر مقترح تقدمت به رسميا بالإضافة إلى تعاون اقتصادي مس جميع المجالات، خاصة منها القطاع السياحي الناشئ. لكن ذلك كله يبدو أنه وصل لمأزق مع نشوء حرب يونيو 1967، خاصة أن موقف بورقيبة كان داعما لمصر وبقية الأقطار العربية. من الضروري الإشارة إلى أنه خلال كل هذه المدة رفض بورقيبة التصريح بهذه العلاقات وحرص على سريتها مثلما هو مسجل بالوثائق. كما أنه رفض عقد «اتفاقية سلام» منفردة بل إنه وقف مع «جبهة الرفض العربي» إثر اتفاقية «كامب ديفيد».
يحيلنا ذلك على وضعية معقدة لا يمكن وصفها بتوصيفات أحادية البعد من نوع «إما أبيض وإما أسود». بالنسبة لبورقيبة المحدد الرئيس لمدى ونوع انخراطه في الصراع العربي- الإسرائيلي كان يخضع بالأساس لما يرى أنه «مصلحة وطنية عليا»، وبالتالي لا يخضع للحسابات التبسيطية لـ«العمالة»؛ إذ يرفض التماهي بين «مصلحة بناء الدولة الوطنية- القطرية» و«المصلحة القومية العربية». من جهة أخرى لم تكن المقاربة البورقيبية نصيحة مجانية من حكيم سياسي تعبر عن «واقعية» و«عقلانية» في علاقة بالملف الفلسطيني بقدر ما كانت تعبر عن الهاجس الذرائعي لبورقيبة الخاضع لما يرى أنه «مصلحة تونسية» تتمثل في التموقع (سياسيا واقتصاديا) ضمن الاستراتيجية الأميركية في المنطقة عبر المفتاح الإسرائيلي. في المقابل من غير الدقيق وصف الرؤية الأخرى الناصرية تحديدا بأنها كانت «غير واقعية» أو«غير عقلانية» أو أيضا أنها كانت مقتنعة بموقف بورقيبة ولكنها لا تقدر على مواجهة شعبها، إذ مثلما أشار أحمد بن صالح في أكثر من مرة إلى أن اعتراض عبدالناصر على رؤية بورقيبة لم يكن على حكمة مبدأ التفاوض و«خذ وطالب» ولكن على ضرورة التفاوض من «منطلق قوة» أي بعد تحقيق نجاحات عسكرية. ومن الواضح الآن أنه حتى التنازل من دون مقابل في تلك المرحلة والقبول بالتقسيم لم يكن مقبولاً من الطرف الآخر حتى يكون وضعاً يمكن «أخذه» لكي تتم «المطالبة» بما هو أفضل لاحقاً


لا يوجد أي تعليق


طارق الكحلاوي
نشأ طارق في أحد مدن الضواحي مدينة رادس الواقعة في الجمهورية التونسية. يشغل الآن موقع أستاذ في جامعة روتغرز (قسمي التاريخ و تاريخ الفن). تلقى طارق تكوينه الجامعي في جامعة تونس (كلية 9 أفريل، إجازة و دراسات معمقة في التاريخ و الآثار) و جامعة بنسلفانيا (رسالة دكتوارة في تاريخ الفن). و يعلق بانتظام على القضايا و الاوضاع العربية باللغتين العربية و الانجليزية في مواقع و صحف مثل "الجزيرة.نت" و "القدس العربي" و "الحياة" و "العرب نيوز" و "ميدل إيست أونلاين"، و يكتب عمودا أسبوعيا في جريدة "العرب" القطرية. يكتب أيضا في قضايا ثقافية و نظرية تخص الاسلام المعاصر في المجلة البيروتية "الآداب". و تمت استضافته للتعليق في قناة "الجزيرة الفضائية" و قناة 13 "بي بي أس" (نيويورك).

Tarek Kahlaoui
Tarek grew up in the suburban city of Rades in Tunisia. He is currently an Assistant Professor at Rutgers University (a joint position in the Art History and History departments). Tarek graduated from the University of Tunis (Bach. and DEA in history and archeology) and University of Pennsylvania (Ph.D. in history of art). Tarek also comments regularly in Arabic and English on Middle Eastern issues and politics in Aljazeera.net, Al-Quds Al-Arabi, Al-Hayat, Arab News, and Middle East Online, and writes a weekly column for the Qatari newspaper Al-Arab. He also writes on intellectual and theoretical issues related to contemporary Islam in the Lebanese magazine Al-Adab. He was also invited to comment in Al-Jazeera Channel, and in Channel 13 (PBS-New York).