مقال صادر في "العرب" القطرية بتاريخ 16 أوت
http://www.alarab.com.qa/details.php?docId=93807&issueNo=601&secId=15

أحمد بن صالح (4)

طارق الكحلاوي


في سياق الحديث مع أحمد بن صالح تفهم من الوهلة الأولى أنك تستمع إلى راو يحذق فن الحكاية. كنت أعرف من جدي أن أهل مدينة «المكنين» الساحلية -نفس المدينة التي ينحدر منها بن صالح أيضا- يحذقون الحكي. في بعض المرات لا أكاد أميز بين ذكرى جدي الراحل وهو يحكي لي ذاكرته بتأن وهدوء لافتين وبين حديث بن صالح عن ماضيه. إن الرجلان ربما لم يتقاسما -إضافة إلى فن الحكاية- سوى عشق الغناء الشعبي المتأصل في مدينتهما. وكلاهما يحفظ عن ظهر قلب قصائد غنائية طويلة يستحضرانها بسرعة مذهلة في اللحظة المناسبة للحكاية.

ومثلما كان يحصل مع جدي، فإني أستمتع بالاستماع لحكايات بن صالح، ولا أرغب في لحظات كثيرة أن أسأل عن صدقية المقول والمحكي، حتى لا أقطع ذلك التسلسل المشوق للحكاية. غير أن بديهة المؤرخ فيّ لا يمكن ألا تحاول التدخل في نسق الرواية. كان من الضروري أن أطرح أسئلة مفصلية ربما أصعبها: كيف ولماذا انخرط أحمد بن صالح -بوصفه على رأس قيادة أهم منظمة مدنية شعبية قبيل الاستقلال، منظمة «الاتحاد العام التونسي الشغل»، المنظمة النقابية الوحيدة في البلاد- في إنجاح «مؤتمر صفاقس» سنة 1955 والذي حسم عمليا الصراع البورقيبي اليوسفي خاصة في جانبه السياسي والحزبي لمصلحة بورقيبة عندما كان فريق «الأمانة العامة» -أي فريق «الأمين العام» للحزب صالح بن يوسف- وفقا للروايات السائدة قد افتك السيطرة على شعب كثيرة في الحزب خاصة في مدن كبرى مثل تونس ذاتها وجهات الدواخل والجنوب؟ كيف ولماذا أسهم بن صالح بشكل حاسم -ليس كشخص ولكن من خلال دوره في قيادة منظمة مهنية كبيرة- في إنهاء الصراع على سلطة الدولة الوليدة لمصلحة بورقيبة، أي جلاده اللاحق؟
لم يكن الموضوع مجرد صراع بين رجلين فحسب، بل بين رؤيتين. لكن ما من شك أنه كان هناك الكثير من التنافر الشخصي بين بن يوسف وبورقيبة، رغم التاريخ والمسيرة الذاتية التي تجمعهما. كان الاثنان من مؤسسي الحزب «الدستوري الجديد» الشبان على إثر الانشقاق عن «الدستوري القديم». كان الاثنان قد تكونا ضمن السياق التعليمي الحديث وغادرا إلى فرنسا لتعلم المحاماة. كان الاثنان حريصين على تنمية صورتهما الشخصية. تأخر نجم بن يوسف عن البروز مقارنة ببورقيبة، إذ لم يستطع التحول إلى أحد «نجوم» الحزب إلا عندما غادر بورقيبة إلى القاهرة في النصف الثاني من أربعينيات القرن الماضي، خاصة حين نجح في تجميع مختلف القوى السياسية والمدنية تحت شعار «الاستقلال»، وحينها يبدو أن بن يوسف تمثل في نفسه زعامة الحزب بشكل راسخ.

لكن مع كل التقلبات التي طبعت النصف الأول من الخمسينيات في سياسات «الدستوري الجديد» في التراوح بين المفاوضات والمشاركة في الحكم المحلي القائم إلى حمل السلاح والمقاومة المسلحة، لم يظهر أن هناك تنافرا على مستوى الرؤية بين الرجلين. فقط مع حضور بن يوسف مؤتمر باندونغ واكتشافه التحالف «العالم ثالثي» الصاعد وبروز نجم عبدالناصر، بدأ يفهم العالم ووضع بلاده من زاوية جديدة، ويضع تطلعاته الوطنية ضمن مرجعية فكرية أكثر وضوحا. حينما طرحت فرنسا مقترح «الاستقلال الداخلي» على طاولة المفاوضات والذي يجعلها تتفرغ بشكل واضح لمواجهة «الثورة الجزائرية» الصاعدة مقابل منحها سلطات داخلية محدودة لـ «الدستوري الجديد» مع استمرار الحضور العسكري الفرنسي في بعض النقاط الاستراتيجية في البلاد، رأى بن يوسف في المقترح «خطوة إلى الوراء». كان أي قبول بهذا المقترح بالنسبة إليه تأسيسا لقطيعة مع حركة تحريرية مغاربية لم يكن متوقعا منها أن تحقق استقلالها الكامل بشكل مشترك فحسب، بل أيضا أن تؤسس الدولة الجديدة بشكل مشترك. لم يعد الصراع البورقيبي اليوسفي الخافت حتى ذلك الوقت مجرد صراع على الزعامة، بل أصبح صراعا فكريا سياسيا حادا.

إثر الاستقبال التاريخي المظفر لبورقيبة الذي اعتبر «الاستقلال الداخلي» المقترح من قبل فرنسا «خطوة إلى الأمام»، يذكر بن صالح أنه شارك في استقبال بن يوسف العائد إثر بورقيبة إلى البلاد في خضم هذا الصراع على متن السيارة التي نقلت بن يوسف، في الوقت الذي استقبل فيه بورقيبة في صورة الفاتحين على ظهر حصان، والتي كان بن صالح فيها مع قياديين آخرين في الحزب جنبا إلى جنب الزعيمين المتنافرين، ينقل بن صالح أن التوتر كان واضحا. ينقل بن صالح أن بن يوسف كان يسخر من الاستقبال المخصص له مرددا ضاحكا عند تحية الجمهور الرابض على حافة الطريق: «إي شوية شعبيات... شوية شعبيات» (نعم القليل من الشعبوية). يذكر بن صالح أنه مع قياديين آخرين في الحزب كانوا يحاولون جمع يدي الزعيمين ورفعهما إلى الأعلى في سياق دعم المصالحة بينهما.

وفي العموم تتركز رواية بن صالح لموقفه خلال الصراع البورقيبي اليوسفي على موقفه «الوسطي» و «التوسطي» أيضا. يقول بن صالح إنه حاول التوسط لدعوة بن يوسف للمؤتمر حتى ينعقد بحضور الأمين العام، عشية عقد المؤتمر في مدينة صفاقس وسط الجنوب التونسي حيث يوجد ثقل تاريخي لـ «اتحاد الشغل»، وحيث كانت إحدى الكلمات الافتتاحية للمؤتمر تلك التي ألقاها بن صالح ذاته بما يعكس الدور الحاسم للمنظمة النقابية في تنظيم المؤتمر، يشير بن صالح إلى محاولته المتكررة مع الفرجاني بالحاج عمار، رئيس «اتحاد الصناعة والتجارة» المشارك في المؤتمر، للاتصال هاتفيا ببن يوسف. يلمح بن صالح إلى أن بن يوسف لم يشأ في البداية الرد على المكالمات، غير أنه رد أخيرا. عرض عليه أخيرا باسم المؤتمر الحضور لصفاقس للمشاركة في المؤتمر. رد بن يوسف كان حاسما إذ ينقل بن صالح أن الأمين العام للحزب قال له: «تحبني نجي يا سي أحمد وجماعة الوردانين مطوقين المؤتمر» (تريدني أن أحضر ومجموعة الوردانين من المسلحين يطوقون مكان المؤتمر). كان بن يوسف يشير إلى ميليشيا جديدة تكونت تعاضد بورقيبة تحت قيادة أحد أهم قياديي المقاومة المسلحة سابقا حسن عبدالعزيز أصيل مدينة الوردانين الساحلية. بدا الاحتقان وفق رواية بن صالح شديدا ويشير في الأثناء إلى أنه لم يفهم أن الوضع بدأ في التطور من مجرد صراع سياسي إلى صراع مسلح بين الطرفين.

سألت هنا بن صالح كيف دعمت هياكل «الاتحاد» موقف بورقيبة في الوقت الذي يتردد فيه أن مدينة تونس كانت معقلا لبن يوسف؟ هل كان ممثلو النقابة في معاقل بن يوسف متميزين بشكل كامل عن أعضاء الحزب فيها؟ سألته كيف تتم دعوة بن يوسف للمؤتمر عشية عقده فقط؟ وهل هناك أي جدوى في عقد المؤتمر بحضور شخص بن يوسف دون حضور مؤتمرين يمثلون شعب الحزب التي تدعمه؟ سألته أيضا عما يتردد من أن الميليشيات التي حرست المؤتمر لم تتكون من «جماعة الوردانين» التابعة لبورقيبة فحسب، بل أيضا من ميليشيات نقابية متكونة من نقابات مثل «نقابة البطالين» (العاطلين عن العمل) التي كانت مقربة من الزعيم الأقوى للاتحاد الحبيب عاشور؟

لم تبد لي إجابات بن صالح على هذه الأسئلة حاسمة. أشار إلى عدم علمه بوجود ميليشيات نقابية، ولو أنه لم ينف تماما وجودها مثلما أشار إلى عدم علمه آنذاك بوجود ميليشيات «جماعة الوردانين». أشار إلى أن عقد «مؤتمر صفاقس» كان قرارا حظي بـ «شبه إجماع» في اجتماع المجلس الوطني للاتحاد (باستثناء ممثلي «اتحاد» مدينة بن قردان أقصى الجنوب التونسي). تجنب الإجابة عن ظروف عقد المؤتمر خاصة كيفية تجاهل بن يوسف في قرار ومكان عقده. بدت لي حيرة بن صالح نابعة ليس فقط من شعور دفين بتحمل المسؤولية، لكن أيضا من محدودية نفوذه آنذاك داخل «اتحاد الشغل»، وهو الشاب الذي لم يتجاوز حتى سن الـ 30، إذ رغم أنه كان «الكاتب العام» للمنظمة النقابية، فإن الحبيب عاشور الزعيم التاريخي لـ «الاتحاد» وأصيل جزيرة قرقنة المحاذية لمدينة صفاقس وحيث يحظى بدعم نقابي لا محدود، كان على الأرجح المهندس الفعلي لـ «مؤتمر صفاقس».


لا يوجد أي تعليق


طارق الكحلاوي
نشأ طارق في أحد مدن الضواحي مدينة رادس الواقعة في الجمهورية التونسية. يشغل الآن موقع أستاذ في جامعة روتغرز (قسمي التاريخ و تاريخ الفن). تلقى طارق تكوينه الجامعي في جامعة تونس (كلية 9 أفريل، إجازة و دراسات معمقة في التاريخ و الآثار) و جامعة بنسلفانيا (رسالة دكتوارة في تاريخ الفن). و يعلق بانتظام على القضايا و الاوضاع العربية باللغتين العربية و الانجليزية في مواقع و صحف مثل "الجزيرة.نت" و "القدس العربي" و "الحياة" و "العرب نيوز" و "ميدل إيست أونلاين"، و يكتب عمودا أسبوعيا في جريدة "العرب" القطرية. يكتب أيضا في قضايا ثقافية و نظرية تخص الاسلام المعاصر في المجلة البيروتية "الآداب". و تمت استضافته للتعليق في قناة "الجزيرة الفضائية" و قناة 13 "بي بي أس" (نيويورك).

Tarek Kahlaoui
Tarek grew up in the suburban city of Rades in Tunisia. He is currently an Assistant Professor at Rutgers University (a joint position in the Art History and History departments). Tarek graduated from the University of Tunis (Bach. and DEA in history and archeology) and University of Pennsylvania (Ph.D. in history of art). Tarek also comments regularly in Arabic and English on Middle Eastern issues and politics in Aljazeera.net, Al-Quds Al-Arabi, Al-Hayat, Arab News, and Middle East Online, and writes a weekly column for the Qatari newspaper Al-Arab. He also writes on intellectual and theoretical issues related to contemporary Islam in the Lebanese magazine Al-Adab. He was also invited to comment in Al-Jazeera Channel, and in Channel 13 (PBS-New York).