شاهدت منذ أسبوع شريطا سينمائيا مأخوذا عن رواية لغابريال قارثيا ماركيز "الحب في زمن الكوليرا"... الشريط الذي يحمل نفس العنوان كان مخيبا للآمال.. ربما لأن ذكرى الرواية لدي مازالت قوية و الشريط كان أقل من توقعاتي... يجب الإعتراف أن تحويل روايات ماركيز إلى مشهد مرئي مسألة مستحيلة تقريبا... خاصة "الحب في زمن الكوليرا"... ملحمة معقدة من العناصر المعتادة لأسلوب ماركيز: تركيبة من الرومانسية و الكوميديا السوداء الاحتفالية و الدراما السوريالية في ذات الوقت... على كل حال سأرجع ربما في وقت لاحق لهذه الرواية التي إلتهمتها في ثلاثة أيام بعد أن أغلقت باب غرفتي و وضعت "كارمن" لبيزي بشكل متكرر... كان ذلك في الأيام التي كنت أقرأ فيها الروايات مثلما يقوم أي راهب بالاعتكاف و الصلاة و الصيام بدون توقف... كانت أياما رائعة... على كل... كان للشريط في كل الحالات أثرا أساسيا لدي: إستفز داخلي ذلك القمقم الذي كان يبتلع قصصا و روايات بلا نهاية.... المتعب بالنسبة لي و ربما باستثناء الروايات المكتوبة أصلا بالانجليزية و الفرنسية، أني أعشق قراءة الروايات في نسخها المعربة.... إذ من الصعب الحصول على روايات مترجمة الى العربية حتى في أفضل المكتبات هنا.... بحثت في النت و لم يخب ظني... و جدت "مكتبة عربية" تحتوي على نسخ مصورة من روايات ماركيز و غيره من الروائيين العالميين... و هناك وقعت على بعض قصص واحد من أفضل القصاصين الذين قرأتهم في حياتي... أنطون تشيخوف... ذلك الكاتب الروسي الكسول... يجب أن أعترف بداية أني منحاز بشكل مرضي للأدب الروسي... السبب في الأساس ايديولوجي... حيث نشأت على روايات و قصص "الأدب البلشفي"... لكن شيئا فشيئا فارقت "بلشفية" الأدب و غرقت أكثر في "روسيته"... طبعا كان البدء بتولستوي ثم كان الطريق طويلا و لم ينته... تشيخوف كان أحد هذه المحطات... الأخير بالأساس كاتب مسرحي و لكني لا أحبذ قراءة الكتابات المسرحية بشكل عام... تعرفت على تشيخوف من خلال قصصه القصيرة... كان ذلك إكتشافا رهيبا... القدرة على تكثيف درامي أسطوري في بضع صفحات... البعض (مثل هيمنغواي) لا يحبذ قراءة تشيخوف بل يعتبره كاتبا "عاديا"... أعتقد أن مجرد التفكير على هذا النحو خطيئة....
سأقوم بداية من اليوم بعرض بعض القصص و الروايات التي أحبذها.. سأبدأ بتشيخوف... بأحد قصصه القصيرة التي تناسب حجما شكل التدوينة... قصة "الوشاية" و التي ليس لدي ترجمة جيدة لها... الترجمة التي بين يدي قام بها على ما يبدو مترجم هاوي... و لكنها أفضل من لاشيئ...
وشـــايـــة
أنطون تشيخوف
سيرجى كابيتونيتش أهينيف، أستاذ الخط , كان يزوج ابنته إلى أستاذ التاريخ والجغرافيا . مهرجانات الزفاف كانت تسلك السبيل المتوقع بنجاح تام . بداخل غرفة الرسم كانوا يغنون , ويلعبون , ويرقصون . النُدَّل المأجورون من النادى كانوا يهرعون بحيرة وذهول هنا وهناك حول الغرف , لابسين سترات سوداء مشقوق ذيلها وأربطة عنق بيضاء بياضاً باهتاً . كان هناك صخب مستمر وضجيج حديث , كان أستاذ الرياضيات وأستاذ اللغة الفرنسية ومخمن الضرائب الأدنى يتكلمون بسرعة جالسين جنباً إلى جنب على الأريكة , وغير ذلك يعترضون على من حولهم , بوصفهم لأحوال الضيوف بأنهم أشخاص يُدفنون أحياءاً ! , ويقدمون آراءهم فى الروحانية , لا واحد منهم كان يؤمن بالروحانية , ولكنهم وافقوا جميعاً على أن هناك العديد من الأشياء فى هذا العالم التى دائماً ما تكون وراء العقل البشرى . بداخل الحجرة الأخرى كان أستاذ الأدب يشرح للزائرين الأحوال والظروف فى مسألة حق الحارس فى التعدى على عابرين السبيل . الموضوعات المطروحة على حد الفهم والإدراك كانت موضوعات شائكة ومثيرة للهجوم , إلا أنها كانت مقبولة للغاية لدى الجميع .
فى تمام منتصف الليل اتجه مالك البيت إلى المطبخ ليرى هل كل شىء قد جهز للعشاء . المطبخ كان مليئاً من الأرض وحتى السقف بأدخنة ناشئة من إوزة وبطة , وكثير من الأشياء المطبوخة الأخرى . وعلى منضدتين كانت الكماليات .. المشروبات , أضواء منعشة موضوعة فى مظهر فوضوى فنى . الطباخة مارفا، امرأة ذات وجه أحمر اللون , بنية جسمها كان كالبرميل بحزام من حوله , كانت مسرعة باهتياج بشأن المناضد .
قال أهينيف وهو يحك يديه ببعضهما البعض , ويلعق شفتيه : " أرينى السمكة الكبيرة ذات الكافيار يا مارفا" واستطرد : "يالها من رائحة ! , أنا بهذا يمكننى أن أأكل المطبخ بأكمله . هيا , أرينى السمكة "
ذهبت مارفا إلى أحد الموائد , وبحذر , رفعت قطعة من جريدة مشحمة . تحت الورقة وعلى صحن هائل , كانت ترقد سمكة ضخمة , مطلية بالهُلام ومُزينة ببراعم (الكَبَر) الخضراء المخللة , والزيتون , والجزر .
أهينيف حدق النظر إلى السمكة ولهث . أشع وجهه بابتسامة بهيجة . وأعاد نظره إلى فوق . فانحنى لأسفل , وبشفتيه أصدر صوت كصوت عجلة غير مزيتة تدور . وقبل أن يقف بدقيقة , طقطق أصابعه , ومرة أخرى لَمَظ شفتيه .
فجأة جاء صوت من الغرفة المجاورة :" أها ! صوت قبلة عاطفية حارة ... من ذا الذى تقبلينة بالخارج , يا مارفا الصغيرة ؟ "وظهر من مدخل الباب المدرس المساعد فانكن " من هو ؟ .. آه ! ... إنى سعيد لمقابلتك ! يا سيرجى كابيتونيتش ! , يجب على أن أقول أنك جد رائع رفيع ! "
قال أهينيف بارتباك :
- " أنا لا أُقَبِّل , من قال لك ذلك يا أحمق ؟ , إنى فقط كنت ألمظ شفتاى .. بشأن .. إظهار وتبيين دلالة عن ... ابتهاجي بلذة .. النظر إلى السمكة "
- " قل هذا لأحد غيرى " , وتلاشى الوجه الفضولى لـ فانكن , وتبدل بابتسامة عريضة ساخرة .شاع الدم فى وجه أهينيف وقال فى نفسه :" توقف ! , هذا الحقير سيذهب الآن ويصطنع فضيحة . سيلحق بى خزياً وعاراً أمام كل المدينة , هذا الحيوان "
ذهب أهينيف بجبن داخل غرفة الرسم ونظر بخلسة حول المكان ليرى فانكن.
فانكن كان يقف بقرب من البيانو , وينحنى لأسفل بتفاخر ومرح , ويهمس بشىء ما لأخت زوجة المراقب , والتى كانت تضحك .
قال أهينيف فى نفسه :" يتكلم عنى ! , اللعنة عليه ! , وهى تصدق هذا .. تصدقه ! إنها تضحك ! .. الرحمة ! لا , لا يمكن أن أدع هذا يمر .. أنا لا أستطيع , يجب أن أفعل شيئاً يمنع تصديق الناس له .. سأكلمهم كلهم , وسيظهر لهم على أنه أحمق وناشر للإشاعات "
حك أهينيف رأسه بيده , ولا زال متعصباً فى ارتباك , وذهب إلى أستاذ اللغة الفرنسية .
قال أهينيف للرجل الفرنسى :
" لقد كنت للتو فى المطبخ لأرى تجهيز طعام العشاء , أنا أعلم بأنك مولع بالسمك , وأنا عندى سمكة كبيرة ذات كافيار شهى , وفجأة يا رفيقى العزيز , وبدون أية مقدمات , وعلى بعد يارة ونصف , قال ’ ها , ها , ها ’ , و .. , بالمناسبة ... لقد نسيت ... فى المطبخ منذ قليل , ومع تلك السمكة الكبيرة .. هناك قصة صغيرة ! لقد ذهبت إلى المطبخ قبل الآن بالضبط , وأردت أن أنظر إلى أطباق العشاء . نظرت إلى السمكة ولمظت شفتاى فى تلذذ .. ولحدة الصوت , جاء فى تلك الدقيقة هذا الأحمق فانكن وقال ...’ ها , ها , ها ...إذن أنت تقبل مارفا ’ , أقبل مارفا, الطباخة ! يا له من شىء للتخيل , الساذج الأحمق ! تلك المرأة مكتملة السمنة بشكل غريب , وكأنها مجموعة بهائم تجمعوا فى تكتل معاً , وهو يتكلم عن التقبيل ! هذا الشخص الشاذ ! "
" من هو هذا الشخص الشاذ ؟ " سأل هذا أستاذ الرياضيات وهو آت .
قال أهينيف:" ها هو ذا , هناك , فانكن ! لقد ذهبت إلى المطبخ ... " وقال قصة فانكن .. واستطرد :" ... لقد أضحكنى هذا الشخص الشاذ ! إنى لأفضل أن أُقَبِّل كلب عن أن أفعل هذا بـ مارفا لو خيرتنى "
نظر أهينيف حوله ووجد مخمن الضرائب الأدنى .
قال له أهينيف:
" كنا نتكلم عن فانكن , هذا الشخص الشاذ , لقد ذهب إلى المطبخ , و وجدنى بجانب مارفا , وبدأ يخترع كل أنواع القصص السخيفة , ويقول ’ لماذا تُقَبِّل ؟ ’ , يجب أن عقله قد سقط منه كثيراً , وقد قلت ’ إنى لأفضل أن أُقَبِّل ديكاً رومياً عن مارفا .. ثم إن لدى زوجتى الخاصة بى أيها الأحمق ’ , لقد أضحكنى ! "
" من الذى أضحكك ؟ "
سأل هذا القسيس الذى درَّس الكتاب المقدس بالمدرسة , وهو ذاهب تجاه أهينيف
" فانكن . لقد كنت واقفاً داخل المطبخ , حسناً , وأنظر إلى تلك السمكة الكبيرة .... "
وهكذا وبعد نصف ساعة تقريباً كان كل المعزومون يعلمون حادثة السمكة و فانكن.
قال أهينيف فى نفسه وهو يحك يده باليد الأخرى :" دعه يلغو الآن , دعه .. , سيبدأ فى قول قصته لهم , وسيقولون له فى الحال , ’ كفاك هراءاً بعيد الاحتمال , أيها الأحمق , نحن نعلم كل شىء عن ذلك ! ’ "
وهنا كان أهينيف مرتاح البال للغاية , وكنتيجة لسعادته الشديدة , شرب أربعة كؤوس مملوئين عن آخرهم . وبعد مرافقة الصغار إلى غرفهم , ذهب إلى السرير ونام كالطفل البرىء , وفى اليوم التالى لم يعد يفكر بشأن حادثة السمكة الكبيرة . ولكن , وا حسرتاه ! .. أنت تريد , وأنا أريد , والله يفعل ما يريد . لسان شرير فعل فعله الشرير , وكانت خطة أهينيف بلا فائدة .فقط بعد أسبوع واحد – وللدقة , فى يوم الأربعاء بعد المحاضرة الثالثة – عندما كان أهينيف يقف عند منتصف حجرة الأساتذة , حاملاً لتقرير عن ميل للمشاغبة لولد يُدعى فيسيكين , ذهب مدير المدرسة لـ أهينيف وسحبه جانباً وقال له :
" أنظر , يا سيرجى كابيتونيتش , يجب أن تعذرنى ... إنه ليس من شأنى , ولكن عموماً يجب أن أجعلك تدرك الموقف , إنه من واجبى , أنظر , هناك إشاعات أنك على علاقة رومانسية مع ال ... طباخة .. , هذا لن يضرنى شخصياً فى شىء , .. لك الحرية فى أن تغازلها , تقبلها , كما تشاء , ولكن لا تجعل هذه الأمور عامة وتنشرها للجميع , من فضلك , إنى أتوسل إليك ! لا تنسى أنك مدرس مدرسى "
أهينيف تحول إلى شخص بارد ضربه دوار عنيف . رجع البيت كرجل ملدوغ من سِرب نحل بالكامل . كرجل محروق بماء مغلى . وأثناء مشيه إلى المنزل , شعر بأن كل من فى المدينة ينظر إليه على أساس أنه سىء السمعة . وفى المنزل كانت تنتظرة مشكلة طازجة .
سألته زوجته على العشاء :" لماذا لا تلتهم طعامك كعادتك ؟ " , واستطردت :" ما الذى يشغل تأملك هكذا ؟ هل تفكر فى شأن علاقاتك الغرامية ؟ تعلق آمالك بمحبوبتك مارفا ؟ إنى أعلم كل ما هو بشأن هذا , أيها المسلم ! أصدقاء أخيار قد نبهونى من غفلتى ! آ ه ه ... أيها الهمجى ! "وصفعته على وجهه . خرج من جلسة المنضدة , وهو لا يشعر بالأرض تحت قدميه , وبدون أن يرتدى قَلَنْسُوَّته أو معطفه , جعل طريقه إلى فانكن . و وجده بالبيت .
وجه أهينيف كلامه لـ فانكن:
" أيها الوغد ! لماذا لطخت وجهى بالطين أمام كل المدينة ؟ لماذا جعلت تلك الوشاية تنتشر عنى ؟ "
" أية وشاية ؟ عن ماذا تتكلم ؟ "
"من الذى نشر إشاعة تقبيلى لـ مارفا ؟ أليس هو أنت ؟ قل لى . ألم يكن أنت ؟ , أيها اللص ! "
فانكن نظر بدهشة بعينين طارفتين , ونزع من نفسه كل رمز دال على العنف والثورة , وبدا رزيناً , وأعاد عينيه لتنظر إلى التمثال الذى يعبده , وقال بألفاظ واضحة ومتسقة :" يلعننى إلهى ! يجعلنى أعمى ويقتلنى , إذا كنت قد قلت كلمة مفردة عنك ! من الممكن أن أُشَرَّد , أو أُصاب بمرض أسوأ من الكوليرا لو قلت ذلك عنك ! "
إخلاص وصدق فانكن كان غير قابل للارتياب , لقد كان من البين أنه ليس هو مخترع الوشاية .تساءل أهينيف فى تعجب :
ولكن من إذن ؟ , من ؟! "
, وظل يسترجع بعقله ويمر على كل معارفه الشخصية , ويضرب نفسه على صدره ويقول:
" من إذن ؟! "
*** تمت
ترجمه : أحمد الصادق15
\ 6 \ 2006
كتبها:
Tarek طارق...
على الساعة:
23:38
عدد التعاليق: 4 |
|
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
شكرا يا طارق على هذه الأقصوصة الجميلة لتشيخوف.
أنا , مثلك, أعشق أقصوصاته و أحبذها ... كما انني قادم على صياغة احداها في القريب العاجل.
اهلا طارق و القوفرنور
هاو موقع تنجمو تلقاو فيه برشة قصص قصيرة و برشة كتب للتحميل
http://www.anfasse.net
يا قوفرنور علاش باش تعمل فيلم من قصة تشيكوف ...
ايا نتعاونو اتوة نكتبو احسن قصة
اخي السينيما بشرطه يلزم تكون للكتاب المعروفين ؟؟؟
و هاو عندك زادة البرباش عندو برشة حكايات تنجم تعمل منهم سيناريو
قصّة الحب في زمن الكوليرا (اللي ورد ذكرها في فيلم السفارة في العمارة لعادل إمام)... حبيت نقراها العام اللي فات، لكن الحق متاع ربّي، اللغة متاعها صعيبة شويّة عليّ (خاصّة لأني الترجمة اللي تحصّلت عليها كانت بالفرنسيّة)، يمكن بعد ما نتفرّج في الفيلم (كان نجّمت نتفرّج عليه) نعاود نقراها.
يا كلاندو: ياخي مسيبة هيّ ؛-) الحكاية... و إلاّ تعرفش كيفاش، دبّر راسك إنتي و خونا الڤوفرنور... لكن بالله ما تنساونيس حتّى بكليمة (ع الأقل)... و في الأوّل و في الآخر، انتوما احرار، أعملو اللي يظهرلكم
:-)))
Salam Tarek, Tu poses ici une sérieuse problématique entre le texte en sa langue d'origine et la traduction en tant une nouvelle interprétation du texte source. En effet derrière tout traducteur gît un créateur...
إرسال تعليق