مقال صادر في "العرب" القطرية بتاريخ 20 سبتمبر 2009
http://www.alarab.com.qa/d
في أرقام النمو
طارق الكحلاوي
2009-09-20
في أحد أكثر الكتب مبيعاً سنة 2003 «العولمة ومعارضاتها» (Globalization and its Discontents) يقول الحائز على جائزة نوبل الاقتصادي الأميركي والأستاذ في جامعة كولومبيا جوزيف ستيغليتز (Joseph Stiglitz) ما يلي: «كتب المثقف الفرنسي بيير بورديو عن الحاجة لكي يتصرف السياسيون مثل باحثين وأن يدخلوا في نقاشات علمية على أسس البراهين والحقائق الصلبة. للأسف، العكس يحدث عادة، عندما يصبح الأكاديميون المنخرطون في صياغة التوصيات الخاصة بالسياسات الاقتصادية مسيسين، ويبدؤون في تطويع البراهين لتتناسب مع أفكار الساسة»، وإذا كان ذلك وضعا معتادا في دول متقدمة في التمرس الديمقراطي فمن الطبيعي أن يكون أكثر بديهية في بقية الدول.
من الصعب أن نشهد جدالا حول الوضع الاقتصادي التونسي من دون محاولة لتسييسه، وبطبيعة الحال لا يعني نقد «تسييس» الجدال حول الاقتصاد أن ليس هناك علاقة للاقتصاد بالسياسة، لكنه يعني أنه لا يمكن القيام بتحليل جدي للاقتصاد في سياق يرغب أولا وأخيرا في تأكيد موقف سياسي محدد من وراء ذلك التحليل، ومن ثمة فالتحليل السياسوي للاقتصاد هو تحليل انتقائي، يختار معلوماته ولا يتعامل معها تعاملا محايدا، وهنا لدينا نموذجان لهذا النوع من التحاليل، الأول ينتقي المؤشرات الإيجابية ويضخمها بلاغيا إلى درجة تفقد معها معانيها، والثاني ينتقي المؤشرات السلبية ويضخمها أيضا بنفس الطريقة التي تفقد فيها معانيها، هذا عدا أن المؤشرات التي توصف بالإيجابية والسلبية هي ذاتها في حاجة للتدقيق في أحيان كثيرة.
من المتاح لأي متتبع أن يركز على ما هو متوفر من معطيات متفق عليها، أو البراهين حسب تعبير ستيغليتز، حتى يمكن أن يفهم الاتجاه العام، في أقل الأحوال، للوضع الراهن، آخر المعطيات التي تصدرت أخبار وسائل الإعلام الرسمية تقرير صادر في إطار برنامج «مؤشر السلام الدولي» يمنح تونس موقعا متقدما نسبيا في قائمة الدول التي تعيش «مناخا سلمياً» ومن ثم مناسباً للاستثمار، رتبة تونس الأولى إفريقياً في القائمة كانت محور تركيز وسائل الإعلام الرسمية. قياس «مؤشر السلام الدولي» نابع من مؤسسة محترمة دولياً وهي «معهد الاقتصاد والسلام» (Institute for Economics and Peace) ولكنها تعرضت لانتقادات من قبل عدد من المنابر الإعلامية (مثل مجلة «الإيكنوميست») في علاقة بالمعايير التي يعتمدها القياس وحتى جدواه خاصة أن ترتيب الدول يضع عدداً من القوى الأكبر في العالم والأكثر حيازة لاستثمارات دولية مثل الولايات المتحدة في ترتيب متوسط (83)، بل متأخر عن دول مثل تونس (44) والمالاوي (47) والموزمبيق (53) بما يضع تساؤلات حول أهمية المعادلة، المبررة للقيام بهذا المؤشر، بين «السلم» و «الاستثمار».
ولكن ذلك لا يعني أن ترتيب تونس المتقدم إفريقياً في هذه المجالات لا يعني شيئاً، لم تتأخر وسائل الإعلام الرسمية عن الإشارة إلى اقتران هذا المؤشر بمؤشر «منتدى دافوس» حول «التنافسية» هذا العام والذي يضع تونس أيضاً في مقدمة الدول الإفريقية، وبرغم أن هذا المؤشر الثاني دلالة على ما يقدر المناخ الاستثماري التونسي على القيام به فإنه ليس بالضرورة مؤشراً على ما هو قائم فعلاً، وإذا كان من اللازم التركيز على قائمة الدول الإفريقية فإن الاقتصاديات الإفريقية التي توصف بأنها «الأقوى» بحساب «الناتج المحلي الإجمالي» (وهو المؤشر المعتمد عموماً لترتيب الاقتصاديات «الأقوى» في العالم) يضع دولاً، على التوالي، مثل جنوب إفريقيا (1) ونيجيريا (2) والجزائر (3) ومصر (4) في مراتب متقدمة على تونس، برغم تأخرها عنها في قياسات «المناخ السلمي» و «التنافسية». ولكن من جهة أخرى فإن الترتيب التونسي، بـ «ناتج محلي إجمالي» يزيد عن 39 مليار دولار (أرقام أبريل 2009)، ليس بعيداً في القائمة إذ يأتي في العشرة الأوائل إفريقياً، وبعد دول تتميز بمداخيل هائلة لثروات طبيعية رئيسية مثل النفط والغاز وبموارد بشرية أكثر من حيث الكمّ، ولكن ليس من حيث النوع بالضرورة.
وبرغم أنه أصبح نوعاً من الكليشيه، فإنه ليس خاطئا التركيز على معطى الموارد البشرية وبالتحديد التميز النسبي لنوعيتها في تفسير مثل هذا الترتيب إفريقياً، غير أنه من بين أبرز معضلات الاقتصاد التونسي الراهن هي توظيف تلك الموارد البشرية المدربة والمهيأة للشغل خاصة مع التوقعات السائدة بانخفاض معدلات «النمو» (نمو «الناتج المحلي الإجمالي»). وقد صرح هذا الأسبوع الوزير الأول التونسي محمد الغنوشي بأن نسبة «النمو» في تونس هذا العام 2009 ستكون في حدود %3 ولن تتجاوز %3.5 في أحسن الحالات، في حين يمكن أن تبلغ %4 في سنة 2010. هذه النسبة تمثل تراجعا ليس هينا عن نسب «النمو» التي ميزت السنوات الفارطة. إذ عرف الاقتصاد التونسي مثلاً سنتي 2003 و2004 ما وصف من قبل المؤسسات المالية الدولية بأنه «نمو سريع» بنسب تراوحت بين %5.6 و%6، وكان الظرف الزراعي السيئ سنة 2005 وراء تراجع النسبة إلى %4، قبل أن تعود للارتفاع سنة 2006 إلى مستوى %5.5 وتستمر في الارتفاع سنة 2007 إلى %6.3. لكن بحلول سنة 2008 بدأ مؤشر «النمو» في التراجع ليصل إلى %4.5. وبرغم ارتفاع مستوى التضخم في نفس السنة إلى مستوى %5 إلا أنه كان من المتوقع أن ينخفض هذه السنة.
والتراجع الحالي في «النمو» لا يجب أن يكون مفاجئاً إذ هو في علاقة مباشرة بتراجع نسب «النمو» عالمياً والتداعيات غير المباشرة لـ «الأزمة المالية» العالمية، ويأتي «تأجيل» مشاريع عقارية ضخمة في محيط مدينة تونس ضمن هذا الإطار، غير أن مشاريع عقارية ضخمة أخرى لم تتأثر بالوضع الدولي وانطلقت بالفعل. كما أن نسب السياح القادمين من الأقطار العربية المجاورة خاصة ليبيا والجزائر والتي فاقت المليون زائر من كلٍ منهما أسهمت في الحد من تقلص «النمو»، خاصة أمام تناقص نسبة السياح الأوروبيين.
ولكن حتى نفهم المشكل الحالي وبالتحديد عدم توازن العلاقة بين نسب النمو الراهنة والقدرة على توظيف الموارد البشرية يجب هنا أن نستذكر تصريح السيد الغنوشي في شهر يونيو 2007 والذي كان أشار إلى ضرورة تحقيق نسبة نمو تفوق %6 حتى يمكن تلبية الحاجات الشغلية للمتحصلين على شهادات عليا والتي كانت ستزيد آنذاك بنسبة %94. وبهذا المعنى فإن انخفاض نسبة النمو في السنوات اللاحقة (2008 و2009) تحت نسبة %6 يعني القصور عن تلبية الحاجات الشغلية المتجددة خاصة أمام التدفق المستمر والمتزايد من المتحصلين على الشهادات والمهيئين لسوق الشغل. وقد أشارت أرقام رسمية نُشرت بمناسبة ندوات «الحوار مع الشباب» سنة 2008 أن نسبة البطالة لمن هم أكثر من سن 15 سنة تصل إلى %14. في حين تصبح النسبة أكثر ارتفاعاً عندما يتعلق الأمر بمن هو في عمر يتجاوز السن الدراسية لمرحلة التعليم العالي، إذ تصل نسبة البطالة لمن هم بين سن 25 و29 سنة إلى ما يزيد عن %27.
يطرح ذلك سؤالا منهجيا أساسيا وهو العلاقة بين نسبة «النمو» وتحسن الوضع الاجتماعي، وكان أحد أهم رموز المؤسسات المالية الدولية من بين أول من تساءل حول أهمية نسب «النمو» المبنية على ارتفاع «الناتج المحلي الإجمالي». إذ أكد روبرت ماكنامارا الرئيس السابق لـ «البنك الدولي» أن «النمو» الذي ميز «الدول النامية» في خمسينيات وستينيات القرن الماضي لم يمس وضع %40 من مجتمعاتها.
وكانت دراسة كل من إيرما أدلمان (Irma Adelman) وسنتيا موريس (Cynthia Morris) سنة 1973 حول «النمو الاقتصادي والإنصاف الاجتماعي في الدول النامية» وضعت منذ ذلك الوقت ما يكفي من المعطيات والأسئلة التي لا تزال تدعم إلى اليوم من قبل باحثين آخرين، بما في ذلك ستيغليتز نفسه، حول أن «النمو» لا يعني ضرورة تحسن الوضع الاجتماعي للفئات الأكثر فقرا في المجتمع. وبهذا المعنى فإن المؤشرات التي تستحق الاهتمام والتركيز في هذه الحالة ليست فقط وبالأساس تلك المتعلقة بـ «التنافسية» و «المناخ السلمي»، بل تلك المتعلقة بنسب التشغيل وارتفاع الدخل، مقارنة مع ارتفاع الأسعار، في الطبقات الوسطى والفقيرة.
إرسال تعليق