موسيقى ساتي: الغنوسيان
صور متفرقة.. سيارات معطلة مثل ذاكرة متقادمة... صور تشبه وحي الذاكرة.. صور أيقظتها رحلة الصيف الأخيرة
نص يُقرأ مع الغنوسيان رقم واحد
1
تمر السيارة الأولى، فالثانية، فالثالثة... و لا أحد يسمح له بمسح الزجاج الأمامي، أو أي زجاج آخر.
الغبار يعلو. عاصفة صغيرة من رمل الحظائر تلف قيظ منتصف النهار ليوم نموذجي من أيام أغسطس/أوسو. بدا الوضع سورياليا.
لا يتردد في الجري وراء السيارة الرابعة، فالخامسة...
2
أستمع إلى موسيقى ساتي الآن. نوافذ السيارة، زجاجها، مغلقة بإحكام. أرى في الخارج القيظ المتصاعد مع الرمل و الغبار. أزيد درجة إضافية في زر المبرد.
لم أتعرف على ساتي في الوقت المناسب. تذكرت فيما بعد أني انجذبت إلى أكثر موسيقاه رواجا في فيلم تونسي خارج التصنيف. كانت تلك الموسيقى تحديدا كل ما يجب أن أتذكر من الفيلم. فيما بعد فقط تعرفت على إريك ساتي. "الغنوسيان" رقم واحد، كانت تلك القطعة محفورة دائما لدي كأني استمعت إليها قبل الولادة. لا شيء خارق للعادة، نوتة مترددة و بطيئة على الأكثر. حتى الآن لم نعرف بعد ماذا كان يقصد تحديدا، بـ"الغنوسيان". و ربما أصاب هدفه في نهاية الأمر.. فنحن لانزال لا نعرف. إذا كان من الضروري أن أقول شيئا الآن فإنها و غيرها من مقطوعاته المتشابهة على البيانو طلاسم لا غير. طلاسم فاخرة. طلاسم لا يمكن إلا أن أستمع إليها بتكرار. و بدون ندم.
الغبار يعلو. سيارة سادسة تقترب.
3
السيارات مصطفة بلا نهاية. هناك الكثير من باعة الطريق يتمشون في تحد واضح للقيظ و الغبار.. و الزجاج المغلق بلا رحمة.
لا أدري لماذا اعتقدت أني رأيته قبل هذه اللحظة. ليست لديه ملامح مثيرة للانتباه. وجه بلا ملامح. وجه طفل شديد التكرار.
السطل البلاستيكي الصغير أيضا بدون ملامح. مفسوخ تماما. الخرقة فقدت لونها، و حتى لو حافظت عليه فلا أرجح ان تكون ذات ملامح.
كان كل شيء فيه و في متعلقاته لا يستحق التذكر.
لماذا إذا أعتقد الآن أني رأيته قبل الآن.
أخفض زر المبرد.
4
أرى من البعيد رصيف الميناء القديم. بدا البحر عميقا و متسخا للغاية. بقع الزيت الشاسعة تلمع بفخر واضح و في انسجام رائع مع الشمس. أو ذلك ما استطعت أن أراه وسط القيظ و الغبار. لم يكن من السهل الجزم.
لست متأكدا أنه يلبس صندالا أم ماذا. لكنه كان يجري براحة ملفتة. كان يرمي بالخرقة على كل حال، بمائها العفن المتسخ، على البلور الأمامي لكل سيارة تعترض طريقه، قبل أن يتلقى إصبع النهي المتعصب من داخل الزجاج المغلق.
خلفه يتقافز الصبي الذي يحمل كتب القرآن و الأدعية المجهرية الصغيرة المصممة للجيب الأصغر في سروال دجينز من النوع القديم. لم يكن مرتاحا لذلك. لكن ليس من الصعب أن نفهم أنهم فريق واحد من المفترض أن يشتغل بشكل متناغم. تنظيف البلور الأمامي يعني إمكان فتح النوافذ و من ثمة ربما بيع بعض الأدعية. خطة بسيطة لكن من المؤكد أنها أثبتت نجاعتها، حسب اعتقادي.
5
ساتي لا يزال يكرر "الغنوسيان" مثلما حكمت على مشغل "السي دي" لدي في السيارة.
أي عالم بديع هذا: "الغنوسيان" وسط القيظ و الغبار و صبية شبه حفاة... محمية بزجاج النوافذ مع المكيف.
لم أعد متأكدا أني رأيته في السابق. ربما أردت أن أشعر بحميمية تجاهه و هو الملقى في الخارج بدون زجاج أو مكيف.
ربما جرتني النوستالجيا الملغمة في "الغنوسيان" (رقم واحد) إلى تخيل ماض في وجهه.
6
ألقى بخرقته المتعفنة فوق البلور الأمامي. أشرت إليه بإصبعي ناهيا متعصبا. أطلقت بعض السباب أيضا.
دفعت بالسيارة بعيدا و بسرعة.
رفعت في زر المبرد.
(انتهت)
إرسال تعليق