مقال صادر في "العرب" القطرية بتاريخ 13 سبتمبر 2009
http://www.alarab.com.qa/d
قبل الاطلاع على نص المقال يمكن لمن لم يشاهد أي من حلقات سلسلة "تونس 2050"، و التي هي منطلق هذا المقال، أن يشاهدها في مجموعة خاصة بها على فايسبوك
http://www.facebook.com/pa
هنا أيضا موقع السلسلة على الانترنت
http://www.tunis2050.com/
تونس 2050 ؟
طارق الكحلاوي
2009-09-13
كيف ستكون تونس في حدود سنة 2050؟ لا نفكر ربما في هذا السؤال كل يوم لكنه على أية حال سؤال يحتاج منا الانتباه، ولو أن البعض منا لا يستوعب أحيانا ما يحدث في تونس 2009.
في وسط كومة البرامج التلفزية في رمضان أتيح لي مشاهدة سلسلة كوميدية كرتونية معدة للكبار (Animated Sitcom) تونسية بعنوان «تونس 2050». هذا النوع من المسلسلات الذي اكتشفته في الولايات المتحدة منذ سنوات، خاصة مع سلسلتي (The Simpsons) و(South Park) ذائعتي الصيت الآن، أصبح رائجا مع تطور برمجيات الكمبيوتر ودمقطرتها دوليا بحيث يمكن الآن لمنتجين من أقطار ما زالت نامية أن ينتجوا هذا النوع من البرامج بجودة عالية نسبيا يمكن مقارنتها بالجودة الدولية (ما تم في هذه الحالة من قبل شركة (CGS 3D Visual Effects) وهي مؤسسة متركزة في تونس وبإطارات تونسية على الأرجح).
من بين أهم خصوصيات هذا النوع من المسلسلات هو الاستغناء عن صورة الممثل البشري (وليس صوته ضرورة) والقدرة على تطويع شكله وكذلك ظرفيه المكاني والزماني بأبعاد تتفوق على الأبعاد الممكنة في غير ذلك من الوسائط. فيها يملك كاتب السيناريو والمخرج قدرة أكبر على تصنيع مخيالات أكثر تعقيدا وتكثفا. سلسلة «تونس 2050» ليست على ما يبدو الأولى من نوعها في تونس لكنها بدت لي مجددة في المشهد التلفزي التونسي من حيث الجودة ولكن خاصة من حيث المضمون. إذ تعرضت إلى محور مهمش في الإنتاج الدرامي التونسي (وطبعا فيما هو غير درامي أيضا) وهو محور «المستقبليات» (futurology) والذي لا يهم طبعاً مجالات السياسة والاستراتيجيا فحسب بل الفنون أيضاً. ومثلما هو واضح من العنوان تهتم السلسلة بما يمكن أن تكون عليه مدينة تونس وسكانها أساسا (وليس كل البلاد التونسية بالضرورة) في سنة 2050. لكن هل عالجت السلسلة كل ما يمكن أن نشغف بتوقعه بعد أربعين سنة من الآن أم اجتزأت في توقعاتها المستقبلية وفقا للحدود التي تتصرف فيها في واقع اليوم؟
الصبغة الكوميدية الناجحة بشكل متفاوت تتضمن مثلا المشهد الكاريكاتوري لاستعمال الروبوتات «المتونسة» وتغيير مناهج التعليم لتحتوي مادة «البلاي ستايشين»، إلى جانب مقاطع كوميدية تبحث عن قدرة «التونسي الأصيل» (الاصطلاح الذي يعكس فهما جوهرانيا لـ «هوية تونسية» ثابتة) على البقاء بحلول سنة 2050. غير أن الصورة الطاغية هي تلك التي تركز عليها زاوية نظر المخرج (في بداية ونهاية وبين ردهات السلسلة)، صورة المشهد الحضري المختنق بناطحات السحاب من الطراز المعماري «الدولي» (International Style)، الذي أصبح منذ عشريات قليلة يمثل نموذج المشهد الحضري الأميركي المسوق في بقية أنحاء العالم، بما يجعله موازيا تقريبا للعصرنة الحضرية ذاتها، مسقطا بذلك صورة «العمارة السائدة» الآن على الطرز المعمارية الممكنة بعد نصف قرن. فصورة «تونس 2050» تبدو مؤسسة على الصور المتوقعة للمدن المبرمج إنشاؤها حذو العاصمة تونس (مثل «تونس سبورتس سيتي») من قبل شركات عقارية عربية والتي تم توقيع عقودها في السنوات الأخيرة. تونس 2050 تبدو من خلال الزاوية التي تنظر من خلالها سلسلة «تونس 2050» هي الصورة التي يتجه إليه الطموح الراهن، وبالتحديد الطموح «التحديثي العقاري».
لا يعني ذلك أن النظرة المستقبلية للسلسلة التلفزية غير خلاقة فقط بل هي مجتزأة أيضا. بافتراض أن معنى التحديث سنة 2050 سيبقى محصورا في المشهد الحضري القائم على «الطراز الدولي» فإن النظرة المستقبلية، التي يمكن تسميتها بـ «العقارية» أساسا، تضع جانبا معاني أخرى للتحديث. لتضع جانبا خصوصية والترافق المنسجم في النموذج الأميركي بين العصرنة الحضرية من خلال التركيز على «الطراز الدولي» والمنظومة الاجتماعية والاقتصادية القائمة على سيادة رأس المال المالي والمشكلة للأساس المادي الواقعي لتلك العصرنة الحضرية. لنضع جانبا مدى قدرة «البرجوازي التونسي» على تحمل العبء المالي لنموذج «دبي المكررة». هل التحديث المشهدي المعماري سيستطيع أن يغنيني عن بقية مجالات التحديث، وعلى وجه التحديد: هل يمكن لتونس 2050 أن تمارس العصرنة الحضرية والمدينية المعمارية بمعزل عن مدى قدرتها على ممارسة العصرنة الاجتماعية والثقافية والسياسية؟ هل يمكن لحداثة العام 2050 أن تتحمل قطيعة بين التحديث المشهدي والآخر الإنساني؟
عندما أفكر كيف ستكون تونس سنة 2050 فسأفكر، إلى جانب ناطحات السحاب من «الطراز الدولي» ربما، في مدى تحملها مثلا لنقابة للصحفيين مستقلة تتسع لمختلف الحساسات المسيسة وغير المسيسة، القريبة من السلطة وغير القريبة منها. في الأسبوع الماضي فقط وبعد عمر غير طويل منذ مؤتمرها الأول في بداية سنة 2008 لم تستطع أول نقابة للصحفيين في تاريخ تونس المعاصر أن تحافظ على وحدتها التنظيمية واستقلاليتها. وفي أحد شوارع مدينة تونس 2009 تمت مراسيم نقل سلطات السيطرة على مقر النقابة من فريق إلى فريق آخر بشكل لا يمكن وصفه في أقل الأحوال بأنه مشرف للصحافة في تونس، وهو ما استدعى تنديد «الاتحاد الدولي للصحافيين».
عندما أفكر كيف ستكون تونس 2050 فسأفكر بالتأكيد في مشهدها الصحافي، الذي سيكون مهيمنا عليه إلكترونياً على الأرجح، وما إذا كانت ستتحمل حياة صحافية مستقلة ومتنوعة تمارس دورها الحداثي، الذي لا يقل أهمية عن دور ناطحة السحاب، بما هي سلطة رابعة، على فرض وجود مستقل ومؤسساتي لبقية السلطات الثلاث. حياة صحافية حديثة مشهدياً ولكن أيضاً في المضمون، حيث يمكن لنا أن نقرأ أعمدة رأي جذابة ومؤثرة في مجتمعها تمارس دور إذكاء النقاشات العامة والمساهمة في توجيهها. حياة صحافية عصرية حيث يصبح فعلا وليس قانونا فقط من حق أي طرف سياسي أن يطلق منابر إعلامية باسمه بمجرد الإعلام. حياة صحافية حديثة حيث يمكن أن نرى في الإعلام الحكومي بالذات، الممول من دافعي الضرائب، تقارير تمارس دور الرقابة الإعلامية على السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية. عندما أفكر كيف ستكون تونس 2050، أي بعد ما ينقص قليلاً عن القرن منذ استقلالها، فسأفكر حتما ما إذا كان برلمانها، المعاد بناؤه ربما حينها، أو ذاك الذي سيبقى في ضاحية باردو، قابلا أن يستقبل مجلسا تشريعيا متوزعا بين كتل سياسية متنوعة، لدى بعضها الأغلبية (البسيطة) التي تمكنه من أن يحكم، ولكن أن يسقط من الحكم أيضا إذا ما استطاعت الأقلية أن تقنع جمهور الناخبين في الانتخابات الموالية بفشل سياسات الحكومة السابقة. سأفكر بشكل عام في مختلف مستويات السلطة التنفيذية المنتخبة ما إذا كان مبدأ التداول على السلطة فيها مبدأ ورقيا أم واقعيا. إذ في المكسيك تم التنصيص دستوريا على هذا المبدأ غير أنه لم يتحقق إلا بعد 90 عاما من دولة الحزب «المؤسساتي الثوري» المكسيكي.
الخطاب السياسي السائد إعلاميا في تونس 2009 يركز على «ديمقراطية تونسية توافقية ومتدرجة» يمنح فيها الماسك بالسلطة نسباً مئوية متصاعدة لمعارضيه، من معارضي «المساندة النقدية» تحديداً، لولوج البرلمان. من غير المعروف بحساب تصاعد النسب المئوية كل دورة انتخابية تشريعية إذا ما كانت تونس 2050 ستعرف حزبا آخر في السلطة غير الحزب الذي سيكون حكمها قرابة القرن. طبعا من وجهة نظر سياسية صرفة سيكون مضيعة للوقت إذا ما عولنا على «المساندين النقديين» من النوع السائد الآن أن يصلوا يوما إلى السلطة، خاصة إذا ما دأب المرشح «المساند النقدي» للرئاسيات مثلا على القيام بحملة انتخابية تدعو للتصويت للرئيس المنافس.
بمعزل عن الشعاراتية الكامنة في طروحات «الديمقراطية المتدرجة» خاصة عندما تصدر عن فاعل سياسي له علاقة وطيدة بتحديد قوانين اللعبة (وليس عن مراقب محايد)، فإنه ليس خاطئا القول إنه لم تتحقق تجربة للانتقال الديمقراطي في تاريخ البشرية المعاصر بدون توفر شروط تتعالى على إرادوية الناشطين الديمقراطيين. إذ مجموعة من التحولات الاقتصادية والاجتماعية تفرض عادة رغبة اجتماعية عارمة لتحقيق الانتقال الديمقراطي، بأشكاله المختلفة السلمية وغير السلمية أحيانا. لا يمكن التنبؤ بماذا سيحدث سنة 2050 تحديدا، ولكن من غير المعيب للناشطين الديمقراطيين أن يشتغلوا أيضا على مجال «المستقبليات»، والتوقف ولو قليلا عن كتابة البيانات، حتى يمكن لهم وضع تصور عقلاني لمسار الدمقرطة المحتمل.
في الأثناء يمكن لنا التمتع بحلقات سلسلة «تونس 2050» المسلية بلا شك، حتى إذا كانت مهتمة بـ «حداثة ناطحات السحاب» فحسب.
إرسال تعليق