خلال يوم 24 مارس الماضي حاولت منظمة "هيومان رايتس واتش" (مقرها المركزي نيويورك و هي منظمة حقوقية دولية يتم اعتماد تقاريرها من قبل الامم المتحدة مثلما تم في تقرير "غولدستوون" حول الحرب على غزة) عقد ندوة صحفية في تونس لعرض تقريرها حول "المساجين السياسيين السابقين" في تونس. منعت السلطات التونسية عقد الندوة بدعوى أنها "مخالفة للقانون". حضي الخبر بتغطية صحفية دولية واسعة طيلة الأيام الماضية: هنا في "رويترز" و هنا في "نيويورك تايمز" و هنا في "لوفيغراو" كأمثلة قليلة.
طبعا منظمة "هيومان رايتس واتش" لم تدخل بشكل سري إلى تونس بل بمعرفة و قبول السلطات التونسية. و لم تدخل لأغراض سياحية بل في سياق نشاطها الحقوقي و الذي كانت الندوة الصحفية تتويجا له و جزءا منه. مسؤولو المنظمة ذكروا أنهم أبلغوا السلطات التونسية بنيتهم عقد الندوة و أهم حاولوا القيام بذلك في أحد النزل لكنهم قوبلوا بالرفض مما أدى بهم لمحاولة القيام بالندوة في مقر أحد المحامين و الحقوقيين التونسيين و هو أيضا مكتب منظمة تونسية حقوقية.
محتوى التقرير الذي يتحدث عن معاناة المساجين السابقين الذين تم اعتقالهم في سياق انتمائهم لأطراف سياسية هو طبعا أساس الموضوع الذي يستوجب نقاشا جديا. الحكومة التونسية ترفض بشكل متكرر و بعناد تعبير "المساجين السياسيين" و تضع هؤلاء في سياق "مساجين الحق العام" و ذلك منذ بداية التسعينات. هذا السلوك الإنكاري (denial behaviour) يتناقض مع تفاصيل هذه القضايا و التي هي مؤسسة أحيانا كثيرة على نفس القوانين التي استصدرتها السلطات الاستعمارية الفرنسية و التي حاكمت بموجبها قادة الحركة الوطنية التونسية ("تعكير صفو النظام العام"، "إثارة الكراهية"...) و هي مبنية أحيانا كثيرة على أساس توزيع أو إصدار منشورات ذات طابع سياسي و بالتالي حتى بافتراض "مخالفتها القانون" (حسب تأويل السلطات) فهي بالأساس ذات طابع سياسي. و الأهم من كل ذلك أن هذه الملاحقات القانونية تتم في إطار وضع سياسي يتسم عمليا بحكم الحزب الواحد و بالتالي الطرف الوحيد المخول له بإصدار القوانين و التشريع هو الطرف الحاكم دون بقية الحساسيات السياسية و الفكرية. و رغم وجود حالة مسرحية من "التعددية" و مثلما أشرت سابقا (هنا) و مثلما بين خاصة علماء سياسة محترمون تنتمي بلادنا إلى نمط من الدول "التسلطية الهجينة" و في هذا النمط من الدول لا يمكن للقضاء عمليا أن يعمل بشكل مستقل و تصبح أي معارضة جدية في حالة استهداف بشكل آلي بما أنها ترفض الالتزام بوضع "المعارضة الطيعة" (أي المعارضة التي لا ترغب أن تكون معارضة) تحت تسميات "المساندة النقدية". و هذا يعني أن التوصيفات الصادرة عن السلطات التونسية لمعارضيها و الأهم ممارساتها معهم هي في أقل الأحوال تحتاج تمحصيا و نقاشا و ليست توصيفات محايدة و معزولة عن الوضع السياسي القائم.
و هكذا فإن أساس الموضوع في تقرير "هيومان رايتس واتش" أي وضع التهميش و الحرمان للمساجين السابقين في قضايا ذات طابع سياسي موضوع جدي و يستحق الاستماع و الانصات لجميع الأطراف المعنية و التعرض له في الاعلام المحلي و خاصة في الاعلام الممول من قبل دافعي الضرائب. و لم تتعرض له لأول مرة منظمة "هيومان رايتس واتش" بل تعرضت له منظمات دولية أخرى بذات المصداقية مثل "العفو الدولية"، و تعرضت له المنظمات الحقوقية التونسية مثل "الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان" و منظمة "حرية و إنصاف". و هذا لا يعني أن ما تقوله المنظمات الحقوقية لا يستوجب التثبت و التمحيص و لكن لا يمكن ببساطة إنكاره تحت جملة من الشعارات مثل "الاستفزاز" و غير ذلك، بل يجب مواجهته بشجاعة.
ما حدث عمليا هو أن منع الندوة الصحفية، و الذي ترافق أيضا حسب عدد من الصحفيين مع منعهم من التجول و الالتحاق بالندوة، أصبح في ذاته خبرا مضافا على خبر التقرير. و هكذا إذا كان هناك سبب في البداية لتغطية صحفية دولية لتقرير "هيومان رايتس واتش" فقد أضاف المنع سببا آخر للمنابر الاعلامية الدولية لتغطية الخبر. إن المعضلة هنا تتعلق بسياسة إعلامية رسمية ترفض لأي كان في التحدث في شأن محلي سلبي في حين هي بذلك تدفع المنابر الاعلامية الدولية التي لا تستطيع أن تمنعها طبعا أن تتحدث في الشأن السلبي المحلي. و في النهاية فإن المواطن التونسي سيستمع إلى الأخبار السلبية سواء قبلت بذلك السلطات المحلية أم لم تقبل خاصة أننا نعيش حالة من الانسياب الاعلامي غير المسبوق و حتى لو تم حجب موقع إلكتروني فليس من الممكن حجب قناة فضائية. هذه السياسة العبثية تصل أحيانا إلى مستويات كاركاتورية عندما تم الاشادة (في صحف مقربة من السلطات الرسمية هنا) بتقرير منظمة "فريدوم هاوس" الأمريكية فيما يخص وضع المرأة التونسية في حين أن تقارير ذات المنظمة حول وضع الحريات السياسية في تونس لا يتم الاشارة اليها من قريب أو من بعيد بل أن موقع "فريدوم هاوس" محجوب في تونس بسبب تقاريرها حول الوضع السياسي.
أحد الجمل الثابتة التي يتم تكرارها بشكل آلي في الخطاب الرسمي، و الذي وقع في فخ الخطاب الاعتذاري و الدفاعي و هو وضع غير إيجابي أساسا، هي اتهام من ينتقدون الوضع السياسي القائم بأنهم "يشوهون صورة تونس في الخارج". لكن ما حصل مع تقرير "هيومان رايتس واتش" (و هي حالة مسبوقة بحالات أخرى و ليست حالة جديدة) يؤكد أنه لا يمكن لأي كان إن اراد أن يقوم بـ"تشويه صورة تونس" أن يقوم بذلك بالشكل و القدر الذي تقوم به السياسة الاعلامية الرسمية. و لو أن المسؤول عن الوضع السياسي القائم هو الحكومة القائمة و ليس تونس ككل (إذ لا يمكن لأي حكومة أو حاكم أن يدعي أنه يختزل بلدا أو وطنا حتى في أعرق الدول الديمقراطية) فإن هذه الممارسات الحكومية تؤثر على صورة البلاد ككل في نهاية الأمر.
طبعا منظمة "هيومان رايتس واتش" لم تدخل بشكل سري إلى تونس بل بمعرفة و قبول السلطات التونسية. و لم تدخل لأغراض سياحية بل في سياق نشاطها الحقوقي و الذي كانت الندوة الصحفية تتويجا له و جزءا منه. مسؤولو المنظمة ذكروا أنهم أبلغوا السلطات التونسية بنيتهم عقد الندوة و أهم حاولوا القيام بذلك في أحد النزل لكنهم قوبلوا بالرفض مما أدى بهم لمحاولة القيام بالندوة في مقر أحد المحامين و الحقوقيين التونسيين و هو أيضا مكتب منظمة تونسية حقوقية.
محتوى التقرير الذي يتحدث عن معاناة المساجين السابقين الذين تم اعتقالهم في سياق انتمائهم لأطراف سياسية هو طبعا أساس الموضوع الذي يستوجب نقاشا جديا. الحكومة التونسية ترفض بشكل متكرر و بعناد تعبير "المساجين السياسيين" و تضع هؤلاء في سياق "مساجين الحق العام" و ذلك منذ بداية التسعينات. هذا السلوك الإنكاري (denial behaviour) يتناقض مع تفاصيل هذه القضايا و التي هي مؤسسة أحيانا كثيرة على نفس القوانين التي استصدرتها السلطات الاستعمارية الفرنسية و التي حاكمت بموجبها قادة الحركة الوطنية التونسية ("تعكير صفو النظام العام"، "إثارة الكراهية"...) و هي مبنية أحيانا كثيرة على أساس توزيع أو إصدار منشورات ذات طابع سياسي و بالتالي حتى بافتراض "مخالفتها القانون" (حسب تأويل السلطات) فهي بالأساس ذات طابع سياسي. و الأهم من كل ذلك أن هذه الملاحقات القانونية تتم في إطار وضع سياسي يتسم عمليا بحكم الحزب الواحد و بالتالي الطرف الوحيد المخول له بإصدار القوانين و التشريع هو الطرف الحاكم دون بقية الحساسيات السياسية و الفكرية. و رغم وجود حالة مسرحية من "التعددية" و مثلما أشرت سابقا (هنا) و مثلما بين خاصة علماء سياسة محترمون تنتمي بلادنا إلى نمط من الدول "التسلطية الهجينة" و في هذا النمط من الدول لا يمكن للقضاء عمليا أن يعمل بشكل مستقل و تصبح أي معارضة جدية في حالة استهداف بشكل آلي بما أنها ترفض الالتزام بوضع "المعارضة الطيعة" (أي المعارضة التي لا ترغب أن تكون معارضة) تحت تسميات "المساندة النقدية". و هذا يعني أن التوصيفات الصادرة عن السلطات التونسية لمعارضيها و الأهم ممارساتها معهم هي في أقل الأحوال تحتاج تمحصيا و نقاشا و ليست توصيفات محايدة و معزولة عن الوضع السياسي القائم.
و هكذا فإن أساس الموضوع في تقرير "هيومان رايتس واتش" أي وضع التهميش و الحرمان للمساجين السابقين في قضايا ذات طابع سياسي موضوع جدي و يستحق الاستماع و الانصات لجميع الأطراف المعنية و التعرض له في الاعلام المحلي و خاصة في الاعلام الممول من قبل دافعي الضرائب. و لم تتعرض له لأول مرة منظمة "هيومان رايتس واتش" بل تعرضت له منظمات دولية أخرى بذات المصداقية مثل "العفو الدولية"، و تعرضت له المنظمات الحقوقية التونسية مثل "الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان" و منظمة "حرية و إنصاف". و هذا لا يعني أن ما تقوله المنظمات الحقوقية لا يستوجب التثبت و التمحيص و لكن لا يمكن ببساطة إنكاره تحت جملة من الشعارات مثل "الاستفزاز" و غير ذلك، بل يجب مواجهته بشجاعة.
ما حدث عمليا هو أن منع الندوة الصحفية، و الذي ترافق أيضا حسب عدد من الصحفيين مع منعهم من التجول و الالتحاق بالندوة، أصبح في ذاته خبرا مضافا على خبر التقرير. و هكذا إذا كان هناك سبب في البداية لتغطية صحفية دولية لتقرير "هيومان رايتس واتش" فقد أضاف المنع سببا آخر للمنابر الاعلامية الدولية لتغطية الخبر. إن المعضلة هنا تتعلق بسياسة إعلامية رسمية ترفض لأي كان في التحدث في شأن محلي سلبي في حين هي بذلك تدفع المنابر الاعلامية الدولية التي لا تستطيع أن تمنعها طبعا أن تتحدث في الشأن السلبي المحلي. و في النهاية فإن المواطن التونسي سيستمع إلى الأخبار السلبية سواء قبلت بذلك السلطات المحلية أم لم تقبل خاصة أننا نعيش حالة من الانسياب الاعلامي غير المسبوق و حتى لو تم حجب موقع إلكتروني فليس من الممكن حجب قناة فضائية. هذه السياسة العبثية تصل أحيانا إلى مستويات كاركاتورية عندما تم الاشادة (في صحف مقربة من السلطات الرسمية هنا) بتقرير منظمة "فريدوم هاوس" الأمريكية فيما يخص وضع المرأة التونسية في حين أن تقارير ذات المنظمة حول وضع الحريات السياسية في تونس لا يتم الاشارة اليها من قريب أو من بعيد بل أن موقع "فريدوم هاوس" محجوب في تونس بسبب تقاريرها حول الوضع السياسي.
أحد الجمل الثابتة التي يتم تكرارها بشكل آلي في الخطاب الرسمي، و الذي وقع في فخ الخطاب الاعتذاري و الدفاعي و هو وضع غير إيجابي أساسا، هي اتهام من ينتقدون الوضع السياسي القائم بأنهم "يشوهون صورة تونس في الخارج". لكن ما حصل مع تقرير "هيومان رايتس واتش" (و هي حالة مسبوقة بحالات أخرى و ليست حالة جديدة) يؤكد أنه لا يمكن لأي كان إن اراد أن يقوم بـ"تشويه صورة تونس" أن يقوم بذلك بالشكل و القدر الذي تقوم به السياسة الاعلامية الرسمية. و لو أن المسؤول عن الوضع السياسي القائم هو الحكومة القائمة و ليس تونس ككل (إذ لا يمكن لأي حكومة أو حاكم أن يدعي أنه يختزل بلدا أو وطنا حتى في أعرق الدول الديمقراطية) فإن هذه الممارسات الحكومية تؤثر على صورة البلاد ككل في نهاية الأمر.
Andek el7a9 plusieurs sites censuré s pour des raison illogique comme celui que tu mentionne dans ton article .
إرسال تعليق