كانت هذه ملاحظات أولية كتبتها ببعض الاستعجال تعليقا على نص (تم نشره في فايسبوك) يعرض لمحاضرة قدمها الدكتور عبد المجيد الشرفي في منتدى "التقدم" التابع لحزب الوحدة الشعبية (تونس). برغم أنها لا تستقيم بعد كنص لمقال رأيت أن أنشرها لعلها تكون أساسا لمقال أكثر تركيزا على موضوع المحاضرة.
مع احترامي للدكتور الشرفي كمثقف و اكاديمي قدير (و طبعا بناء على أن ما تضمنه النص المشار إليه أعلاه هو تحديدا ما ورد على لسان المحاضر) لدي بعض الملاحظات (من جملة ملاحظات كثيرة لا أستطيع التفصيل فيها نظرا لضيق الوقت).. و الملاحظات أسفله سأنشرها في نص خاص نظرا لطولها: أبدأ من الفقرة الأولى
هنا ملاحظتين:
الأولى... يجب القول أن المحاضر ليس و لم يكن أبدا مؤرخا... أعتقد أنه حان الوقت في تونس لمواجهة سؤال أساسي: ما هي العلاقة بين الاختصاص الذي يتم تسميته بـ"الحضارة" (civilization) و التاريخ.. و تبدو لي هذه العلاقة في الحقيقة غامضة... ليس لأن تعريف هذا الاختصاص يبدو مبهما (خاصة أني لا أجد له أثرا واضحا في جامعات مرجعية أسست للحقل الاكاديمي الحديث) بل أيضا لأن التركيز على محتوى نصوص من يشتغلون عليه (في السياق التونسي مثلا) يبدو اشكاليا إذ يستأنس بالمعطى التاريخي دون التحقيق و التدقيق اللازمين في سياق مناهج علم التاريخ المتعارف عليها حديثا
الثانية.. بالنسبة لموقف من سماهم المحاضر بـ"الخبراء الأمريكيين" في الشأن الايراني و فشلهم في فهم إيران بسبب فشلهم في فهم التاريخ الايراني (حسب رأيه).. طبعا سأعتبر أن من يقصدهم المحاضر هم "الخبراء" الملحقين بأجهزة الدولة السياسية و الامنية (بما في ذلك و لكن ليس فقط "خبراء" وكالة الاستخبارات المركزية).. و هنا يوجد ما أعتقد أنه إشكال رئيسي و متكرر نوعا ما في كلام المحاضر..و هو تهميش المعطى السياسي... إذ هذا التقييم للفشل الامريكي السياسي قبل الثورة الايرانية لا يأخذ بعين الاعتبار ما يطلق عليه البعض "ايديولوجيا السلطة".. إذ أن انتقاء "خبراء" السلطة (بما في ذلك سلطة حديثة و ديمقراطية بالمقياس التاريخي الراهن مثلما هي السلطة السياسية في الولايات المتحدة) لا يتم بناء على "خبراتهم" فحسب بل و خاصة على أساس ولائهم الفكري لمشروع الدولة.. في هذه الحالة (أي الحالة الامريكية) مشروع الدولة التوسعية.. و بناء ربما على وجودي في الحقل الاكاديمي الامريكي و معرفتي به يمكن أن أشير إلى أن هناك الكثير من "الخبراء" الاكاديميين الامريكيين الذين يعرفون جيدا التاريخ الايراني و علاقته بالواقع السياسي الدولي إلا أنهم ليسو في مواقع القرار أو مقربين من مواقع القرار لسبب بسيط.. و هو أنهم يحللون بشكل منفصل (منهجا و نتائجا) عن المشروع التوسعي.. و بالتالي الخبراء الحكوميين الذين فشلوا كان ذلك ليس في اعتقادي لسبب معرفي (عدم معرفتهم بالتاريخ الايراني) بل لسبب سياسي أي ولائهم لمشروع توسعي لا يمكن أو لا يستطيعون رؤية مساوئه الاستراتيجية و بالتالي ردود الافعال التي ينتجها.. و هذه بالمناسبة ليست حالة فريدة بإيران ما قبل الثورة.. بل ايضا بالتقييمات التي وردت عن "خبراء" في الشأن العراقي قبل عملية الغزو الأخيرة.. و عموما بحالات كثيرة أخرى تصطدم فيه مصلحة الدولة التوسعية بمعطيات موضوعية تشير لدي أي خبير "مختص" في هذا الشأن أو ذاك إلى المأزق المحتوم لتلك السياسة أو غيرها.
أيضا يقول المحاضر
لا أدري فعلا إن كان المحاضر استعمل كلمات مثل "اندثرت" و "ماتت" لكن في جميع الأحوال يبدو لي ذلك أمرا مشطا للغاية.. و كذلك تبدو لي المقارنة مع الحضارات الفرعونية و الاشورية و البابلية.. و في الحقيقة نقاش هذه النقطة مثال على اشكالية بعض المفاهيم بالنسبة للمشتغلين في اختصاص "الحضارة" خاصة المفاهيم المتعلقلة بالمراحل التاريخية و "الحداثة" ذاتها مرحلة تاريخية و كذلك الطابع التاريخي لمعنى الحضارة ذاتها
دعني هنا أؤكد على أمر أساسي (على اعتبار أننا متفقون أصلا حول معنى مصطلح "الحضارة" الذي نستعمله هنا و هو ما سأعود إليه لاحقا) و هو أن "الازدهار الحضاري" الذي يمكن أن نصفه بـ"العربي" و/أو "الاسلامي" في بعض مراحل التاريخ ما قبل الحديث (بعض الفترتين الاموية و العباسية و الفاطمية و الاموية في الاندلس و بعض حتى فترات ملوك الطوائف في الاندلس و بعض العثمانية و الصفوية.. إلخ للذكر لا الحصر) لم يكن دائما و ثابتا و حتى لم يعم ضرورة كافة مناطق مجال محدد في فترة تاريخية محددة.. كما أنه من البديهي أن الحضارة الأوروبية الغربية ثم الامريكية ثم الآسيوية الحديثة هي مكون أساسي من مكونات حياتنا المعاصرة.. و لا يمكن لحياة العرب و المسلمين المعاصرة أن تستمر أو توجد بدون تلك المكونات... و برغم بديهية هذا الأمر اعتقد أننا نحتاج التأكيد عليه حتى ننطلق من أسس واضحة في نقاش هذا الموضوع
لكن الحديث عن "موت" و "اندثار" المعطى الحضاري بالنسبة لشعوب و مجموعات سكانية مازالت على قيد الحياة أمر إشكالي للغاية... و هنا ربما الاشكال هو غموض مصطلح "الحضارة" و أيضا العلاقة بين "الحداثة" كمرحلة تاريخية مخصوصة و الطابع الثقافي المخصوص الذي يمكن أن يطبع مصطلح "الحضارة" بماهي حالة لا تختص في المقابل بالمرحلة الحديثة... لنأخذ مثلا من الماضي لتوضيح أهمية تحديد هذه المفاهيم و العلاقات فيما بينها: إذا اتفقنا أنه كانت هناك "حضارة عربية اسلامية" (و يبدو أن المحاضر يقر بوجودها بمعزل عن تحديد الزمان و المكان) فإن ذلك لا يعني أن من احتك أو استفاد إلى هذا القدر أو ذاك بمنتجات نلك الحضارة فقد خصوصية واقعه الحضاري و أضحى ضمن مجال "الحضارة العربية الاسلامية".. و هكذا فإن الحضارات المجاورة للحضارة العربية الاسلامية (في أزمان ازدهارها) مثل الحضارة الأوربية الوسطية و حتى الحضارة الصينية (و هما الحضارتين التين كانا على خط التماس، صراعا أو تلاقحا، مع الحضارة العربية الاسلامية في الفترة ما قبل الحديثة) حافظا على خصوصيتهما برغم الريادة التي ميزت الحضارة العربية الاسلامية في بعض الفترات... الخلاصة التي أحتاج التأكيد عليها هنا: إن الفعل الحضاري هنا ليس فعلا ثقافيا فحسب بل هو كوني (حتى في الفترة ما قبل الحديثة) لكن برغم ذلك محدود (بالمعنيين السلبي و الايجابي للكلمة) بالخصوصيات الثقافية لحاملي ذلك الفعل الحضاري بما يجعله مخصوصا في نهاية الأمر.. فمنتجات و إسهامات حضارة ما كانت دائما (في المراحل ما قبل الحديثة و المرحلة الحديثة على السواء) كونية غير أن استعمالاتها من قبل مجالات لا تنتمي إلى مجال إنتاجها الأصلي لا ينزع عن ذلك المجال واقع فعله الحضاري سواء من جهة خصوصيته الثقافية (وم بالتالي تأويله و استعماله المخصوص لهذا و ذلك المنتج) أو من جهة الظروف التاريخية و البيئية الطبيعية التي تفرض عليه اهتمامات خاصة و حاجات خاصة.
وجدت حضارات متفوقة قبل الفترة الحديثة. و كان لديها اسهامات ذات طابع كوني (و منها الحضارة العربية الاسلامية). لكن ذلك لم يؤد إلى "اندثار" حضارة مجموعة بشرية ما كانت آنذاك على قيد الحياة و بصدد الانتاج و الاستهلاك بسبب أنها كانت جزئيا تقوم باستهلاك معارف و منتجات الحضارة المتفوقة.
لنأخذ الآن مثلا من المرحلة الحديثة و بالتحديد المعاصرة لتوضيح نفس الفكرة بأمثلة مختلفة: برغم كل مساوئ الدولة ما يعد الكولونيالية في المجال العربي بما في لذك التونسي فإننا لا يمكن أن ننفي توسع و تحديث المدن و توسع و تحسين مختلف الهياكل التي تسمح بحياة أفضل (نسبيا طبعا من السابق). و بهذا المعنى هناك حضارة في مجالات يسكنها عرب و مسلمون. و بالتأكيد جزء هام من "أصول" تلك الحضارة و أيضا ما تستهلكه كان ممكنا فقط بسبب أمرين: فيض و تحسن الانتاج الذي سمحت به خصائص المرحلة الحديثة (و فاعليته الكونية بمعزل عن الأصل الجغرافي و لكن أيضا هذه الاساهامات ذات الطابع الخاص بمرحلتنا التاريخية أي المرحلة الحديثة كانت ممكنة فقط بسبب مجالات حضارية محددة هيمن فيها في البدئ المجال "الابيض-الغربي" غير أننا نشهد الآن توسع مجالات الحضارات المتفوقة إلى المجال الآسيوي.
و هذا يعني أننا إزاء وضعية معقدة: إذ أن الحضارة المعاصرة هي في ذ ات الوقت تتصف بطابع كوني (حداثي تحديثي) إلا أنها واقعيا غير ممكنة خارج مجالات حضارية لا يمكن تعريفها دون الالتجاء إلى معطيات أخرى هي أساسا ثقافية ترجع حتى إلى الفتراات ما قبل الحديثة.
و بهذا المعنى لا يمكن الحديث عن "حضارة حديثة" كأنها ذات هوية كونية مطلقة. إذ أن ذلك التوصيف يعني تجاهلا لواقعية الخصوصية الثقافية التي لازالت تحدد اتجاه هذه الحضارة أو تلك. فوجود أناس بخلفيات ثقافية متنوعة يجعلنا إزاء وجود حضارات و لو أنها متقاطعة بسبب الجدوى الكونية لمنتجات و معارف المرحلة الحديثة. متقطاعة و ليست متطابقة.
و بهذا المعنى فإن هناك حضارة عربية اسلامية مادام لازال هناك مجموعة أو مجموعات سكانية تنظر إلي نفسها ضمن هذا التوصيف الثقافي. و مادامت مثل هذه المجموعات موجودة و تنتج ما تنتج (مهما كان نسبيا قليلا أما تنتجه المجالات الحضارية المتفوقة) و تستهلك ما تستهلك فإننا إزاء حضارة عربية اسلامية لازالت على قيد الحياة. هي حضارة عربية اسلامية لكن حية و مستمرة جزئيا بسبب الجدوى الكونية لمنتجات و معارف المرحلة الحديثة، و هي منتجات و معارف تمت في مجالات حضارية أخرى. لكن بهذا المعنى يمكن أيضا الحديث عن "حضارة تونسية" إذا كان التونسي ينظر إلي نفسه على أنه "تونسي" بالاضافة لكوني "عربي" و/أو "مسلم".. و إلي غير ذلك من الأمثلة الخاصة بالمجال العربي.
و بهذا المعنى أيضا تبدو المقارنة مع الحضارات الفرعوينية و البابلية و غيرها من الحضارت غير مناسبة. إذ أنه لا يوجد (أو يوجد القليل جدا من الناس الأحياء) في مرحلتنا المعاصرة ممن يعرفون أنفسهم بوضوح (لنضع جانبا خطاب الشعبوية السياسوية المناسباتية مثلا في الحالة المصرية) و لكن الأهم أيضا يمكن أن نعرفهم جزئيا بناء على معطيات ثقافية موضوعية (لغة، عادات..) على أنهم هكذا "فرعونيون" أو "بابليون".. إلخ
إذا بشكل عام يمكن أن نقول الآتي.. الحضارة لا يجب أن تكون دائما متفوقة و لا يجب أن تكون دائما منتجة أكثر من استهلاكها. و هي موجودة ليس بسبب منتجات و معارف كونية فحسب بل بسبب خصوصيات ثقافية ترجع الى المرحلة ما قبل الحديثة. كما أن المرحلة الحديثة برغم كونية منتجاتها المادية و المعرفية لم تقم بإنهاء تنوع الحضارات.
................................................................
مع احترامي للدكتور الشرفي كمثقف و اكاديمي قدير (و طبعا بناء على أن ما تضمنه النص المشار إليه أعلاه هو تحديدا ما ورد على لسان المحاضر) لدي بعض الملاحظات (من جملة ملاحظات كثيرة لا أستطيع التفصيل فيها نظرا لضيق الوقت).. و الملاحظات أسفله سأنشرها في نص خاص نظرا لطولها: أبدأ من الفقرة الأولى
أكد في بدايتها على ضرورة رفع الالتباس الذي يحوم حول المفهومين اللذين كثر تناولهما من دون معرفة حقيقية أو خلفية تاريخية. في حين أنه من الذين يولون أهمية كبرى للتاريخ بمفهومه الواسع باعتباره يفسر لنا الحاضر ويمكننا من استشراف المستقبل، مشيرا كمثال إلى عجز الخبراء الأمريكان الذين كانوا "مختصين" في إيران عن فهم حركة الخميني عند قيامها رغم معرفتهم الدقيقة بواقع إيران وذلك لجهلهم في الأغلب بتاريخها و العوامل التي كانت مخفية ثم برزت إلى السطح.
هنا ملاحظتين:
الأولى... يجب القول أن المحاضر ليس و لم يكن أبدا مؤرخا... أعتقد أنه حان الوقت في تونس لمواجهة سؤال أساسي: ما هي العلاقة بين الاختصاص الذي يتم تسميته بـ"الحضارة" (civilization) و التاريخ.. و تبدو لي هذه العلاقة في الحقيقة غامضة... ليس لأن تعريف هذا الاختصاص يبدو مبهما (خاصة أني لا أجد له أثرا واضحا في جامعات مرجعية أسست للحقل الاكاديمي الحديث) بل أيضا لأن التركيز على محتوى نصوص من يشتغلون عليه (في السياق التونسي مثلا) يبدو اشكاليا إذ يستأنس بالمعطى التاريخي دون التحقيق و التدقيق اللازمين في سياق مناهج علم التاريخ المتعارف عليها حديثا
الثانية.. بالنسبة لموقف من سماهم المحاضر بـ"الخبراء الأمريكيين" في الشأن الايراني و فشلهم في فهم إيران بسبب فشلهم في فهم التاريخ الايراني (حسب رأيه).. طبعا سأعتبر أن من يقصدهم المحاضر هم "الخبراء" الملحقين بأجهزة الدولة السياسية و الامنية (بما في ذلك و لكن ليس فقط "خبراء" وكالة الاستخبارات المركزية).. و هنا يوجد ما أعتقد أنه إشكال رئيسي و متكرر نوعا ما في كلام المحاضر..و هو تهميش المعطى السياسي... إذ هذا التقييم للفشل الامريكي السياسي قبل الثورة الايرانية لا يأخذ بعين الاعتبار ما يطلق عليه البعض "ايديولوجيا السلطة".. إذ أن انتقاء "خبراء" السلطة (بما في ذلك سلطة حديثة و ديمقراطية بالمقياس التاريخي الراهن مثلما هي السلطة السياسية في الولايات المتحدة) لا يتم بناء على "خبراتهم" فحسب بل و خاصة على أساس ولائهم الفكري لمشروع الدولة.. في هذه الحالة (أي الحالة الامريكية) مشروع الدولة التوسعية.. و بناء ربما على وجودي في الحقل الاكاديمي الامريكي و معرفتي به يمكن أن أشير إلى أن هناك الكثير من "الخبراء" الاكاديميين الامريكيين الذين يعرفون جيدا التاريخ الايراني و علاقته بالواقع السياسي الدولي إلا أنهم ليسو في مواقع القرار أو مقربين من مواقع القرار لسبب بسيط.. و هو أنهم يحللون بشكل منفصل (منهجا و نتائجا) عن المشروع التوسعي.. و بالتالي الخبراء الحكوميين الذين فشلوا كان ذلك ليس في اعتقادي لسبب معرفي (عدم معرفتهم بالتاريخ الايراني) بل لسبب سياسي أي ولائهم لمشروع توسعي لا يمكن أو لا يستطيعون رؤية مساوئه الاستراتيجية و بالتالي ردود الافعال التي ينتجها.. و هذه بالمناسبة ليست حالة فريدة بإيران ما قبل الثورة.. بل ايضا بالتقييمات التي وردت عن "خبراء" في الشأن العراقي قبل عملية الغزو الأخيرة.. و عموما بحالات كثيرة أخرى تصطدم فيه مصلحة الدولة التوسعية بمعطيات موضوعية تشير لدي أي خبير "مختص" في هذا الشأن أو ذاك إلى المأزق المحتوم لتلك السياسة أو غيرها.
أيضا يقول المحاضر
وفي هذا السياق أعاد التأكيد على رأيه المثير للجدل بأن الحضارة العربية الإسلامية قد اندثرت وماتت مثل كل الحضارات الماضية الفرعونية واليونانية والبابلية والاشورية... فنحن اليوم نعيش في ظل حضارة أخرى هي الحضارة الحديثة، وإن بقيت ثقافتنا، مشيرا إلى أن كل حضارة دون استثناء لا يمكن أن تنشأ إلا إذا تبنت مكتسبات الحضارة التي سبقتها.
لا أدري فعلا إن كان المحاضر استعمل كلمات مثل "اندثرت" و "ماتت" لكن في جميع الأحوال يبدو لي ذلك أمرا مشطا للغاية.. و كذلك تبدو لي المقارنة مع الحضارات الفرعونية و الاشورية و البابلية.. و في الحقيقة نقاش هذه النقطة مثال على اشكالية بعض المفاهيم بالنسبة للمشتغلين في اختصاص "الحضارة" خاصة المفاهيم المتعلقلة بالمراحل التاريخية و "الحداثة" ذاتها مرحلة تاريخية و كذلك الطابع التاريخي لمعنى الحضارة ذاتها
دعني هنا أؤكد على أمر أساسي (على اعتبار أننا متفقون أصلا حول معنى مصطلح "الحضارة" الذي نستعمله هنا و هو ما سأعود إليه لاحقا) و هو أن "الازدهار الحضاري" الذي يمكن أن نصفه بـ"العربي" و/أو "الاسلامي" في بعض مراحل التاريخ ما قبل الحديث (بعض الفترتين الاموية و العباسية و الفاطمية و الاموية في الاندلس و بعض حتى فترات ملوك الطوائف في الاندلس و بعض العثمانية و الصفوية.. إلخ للذكر لا الحصر) لم يكن دائما و ثابتا و حتى لم يعم ضرورة كافة مناطق مجال محدد في فترة تاريخية محددة.. كما أنه من البديهي أن الحضارة الأوروبية الغربية ثم الامريكية ثم الآسيوية الحديثة هي مكون أساسي من مكونات حياتنا المعاصرة.. و لا يمكن لحياة العرب و المسلمين المعاصرة أن تستمر أو توجد بدون تلك المكونات... و برغم بديهية هذا الأمر اعتقد أننا نحتاج التأكيد عليه حتى ننطلق من أسس واضحة في نقاش هذا الموضوع
لكن الحديث عن "موت" و "اندثار" المعطى الحضاري بالنسبة لشعوب و مجموعات سكانية مازالت على قيد الحياة أمر إشكالي للغاية... و هنا ربما الاشكال هو غموض مصطلح "الحضارة" و أيضا العلاقة بين "الحداثة" كمرحلة تاريخية مخصوصة و الطابع الثقافي المخصوص الذي يمكن أن يطبع مصطلح "الحضارة" بماهي حالة لا تختص في المقابل بالمرحلة الحديثة... لنأخذ مثلا من الماضي لتوضيح أهمية تحديد هذه المفاهيم و العلاقات فيما بينها: إذا اتفقنا أنه كانت هناك "حضارة عربية اسلامية" (و يبدو أن المحاضر يقر بوجودها بمعزل عن تحديد الزمان و المكان) فإن ذلك لا يعني أن من احتك أو استفاد إلى هذا القدر أو ذاك بمنتجات نلك الحضارة فقد خصوصية واقعه الحضاري و أضحى ضمن مجال "الحضارة العربية الاسلامية".. و هكذا فإن الحضارات المجاورة للحضارة العربية الاسلامية (في أزمان ازدهارها) مثل الحضارة الأوربية الوسطية و حتى الحضارة الصينية (و هما الحضارتين التين كانا على خط التماس، صراعا أو تلاقحا، مع الحضارة العربية الاسلامية في الفترة ما قبل الحديثة) حافظا على خصوصيتهما برغم الريادة التي ميزت الحضارة العربية الاسلامية في بعض الفترات... الخلاصة التي أحتاج التأكيد عليها هنا: إن الفعل الحضاري هنا ليس فعلا ثقافيا فحسب بل هو كوني (حتى في الفترة ما قبل الحديثة) لكن برغم ذلك محدود (بالمعنيين السلبي و الايجابي للكلمة) بالخصوصيات الثقافية لحاملي ذلك الفعل الحضاري بما يجعله مخصوصا في نهاية الأمر.. فمنتجات و إسهامات حضارة ما كانت دائما (في المراحل ما قبل الحديثة و المرحلة الحديثة على السواء) كونية غير أن استعمالاتها من قبل مجالات لا تنتمي إلى مجال إنتاجها الأصلي لا ينزع عن ذلك المجال واقع فعله الحضاري سواء من جهة خصوصيته الثقافية (وم بالتالي تأويله و استعماله المخصوص لهذا و ذلك المنتج) أو من جهة الظروف التاريخية و البيئية الطبيعية التي تفرض عليه اهتمامات خاصة و حاجات خاصة.
وجدت حضارات متفوقة قبل الفترة الحديثة. و كان لديها اسهامات ذات طابع كوني (و منها الحضارة العربية الاسلامية). لكن ذلك لم يؤد إلى "اندثار" حضارة مجموعة بشرية ما كانت آنذاك على قيد الحياة و بصدد الانتاج و الاستهلاك بسبب أنها كانت جزئيا تقوم باستهلاك معارف و منتجات الحضارة المتفوقة.
لنأخذ الآن مثلا من المرحلة الحديثة و بالتحديد المعاصرة لتوضيح نفس الفكرة بأمثلة مختلفة: برغم كل مساوئ الدولة ما يعد الكولونيالية في المجال العربي بما في لذك التونسي فإننا لا يمكن أن ننفي توسع و تحديث المدن و توسع و تحسين مختلف الهياكل التي تسمح بحياة أفضل (نسبيا طبعا من السابق). و بهذا المعنى هناك حضارة في مجالات يسكنها عرب و مسلمون. و بالتأكيد جزء هام من "أصول" تلك الحضارة و أيضا ما تستهلكه كان ممكنا فقط بسبب أمرين: فيض و تحسن الانتاج الذي سمحت به خصائص المرحلة الحديثة (و فاعليته الكونية بمعزل عن الأصل الجغرافي و لكن أيضا هذه الاساهامات ذات الطابع الخاص بمرحلتنا التاريخية أي المرحلة الحديثة كانت ممكنة فقط بسبب مجالات حضارية محددة هيمن فيها في البدئ المجال "الابيض-الغربي" غير أننا نشهد الآن توسع مجالات الحضارات المتفوقة إلى المجال الآسيوي.
و هذا يعني أننا إزاء وضعية معقدة: إذ أن الحضارة المعاصرة هي في ذ ات الوقت تتصف بطابع كوني (حداثي تحديثي) إلا أنها واقعيا غير ممكنة خارج مجالات حضارية لا يمكن تعريفها دون الالتجاء إلى معطيات أخرى هي أساسا ثقافية ترجع حتى إلى الفتراات ما قبل الحديثة.
و بهذا المعنى لا يمكن الحديث عن "حضارة حديثة" كأنها ذات هوية كونية مطلقة. إذ أن ذلك التوصيف يعني تجاهلا لواقعية الخصوصية الثقافية التي لازالت تحدد اتجاه هذه الحضارة أو تلك. فوجود أناس بخلفيات ثقافية متنوعة يجعلنا إزاء وجود حضارات و لو أنها متقاطعة بسبب الجدوى الكونية لمنتجات و معارف المرحلة الحديثة. متقطاعة و ليست متطابقة.
و بهذا المعنى فإن هناك حضارة عربية اسلامية مادام لازال هناك مجموعة أو مجموعات سكانية تنظر إلي نفسها ضمن هذا التوصيف الثقافي. و مادامت مثل هذه المجموعات موجودة و تنتج ما تنتج (مهما كان نسبيا قليلا أما تنتجه المجالات الحضارية المتفوقة) و تستهلك ما تستهلك فإننا إزاء حضارة عربية اسلامية لازالت على قيد الحياة. هي حضارة عربية اسلامية لكن حية و مستمرة جزئيا بسبب الجدوى الكونية لمنتجات و معارف المرحلة الحديثة، و هي منتجات و معارف تمت في مجالات حضارية أخرى. لكن بهذا المعنى يمكن أيضا الحديث عن "حضارة تونسية" إذا كان التونسي ينظر إلي نفسه على أنه "تونسي" بالاضافة لكوني "عربي" و/أو "مسلم".. و إلي غير ذلك من الأمثلة الخاصة بالمجال العربي.
و بهذا المعنى أيضا تبدو المقارنة مع الحضارات الفرعوينية و البابلية و غيرها من الحضارت غير مناسبة. إذ أنه لا يوجد (أو يوجد القليل جدا من الناس الأحياء) في مرحلتنا المعاصرة ممن يعرفون أنفسهم بوضوح (لنضع جانبا خطاب الشعبوية السياسوية المناسباتية مثلا في الحالة المصرية) و لكن الأهم أيضا يمكن أن نعرفهم جزئيا بناء على معطيات ثقافية موضوعية (لغة، عادات..) على أنهم هكذا "فرعونيون" أو "بابليون".. إلخ
إذا بشكل عام يمكن أن نقول الآتي.. الحضارة لا يجب أن تكون دائما متفوقة و لا يجب أن تكون دائما منتجة أكثر من استهلاكها. و هي موجودة ليس بسبب منتجات و معارف كونية فحسب بل بسبب خصوصيات ثقافية ترجع الى المرحلة ما قبل الحديثة. كما أن المرحلة الحديثة برغم كونية منتجاتها المادية و المعرفية لم تقم بإنهاء تنوع الحضارات.
إرسال تعليق