مقال صدر في "العرب" القطرية بتاريخ 7 جوان 2009
الرابط
طارق الكحلاوي
أصبح من قبيل الكليشيهات الآن الحديث عن دور القارئ في إعادة صناعة النص. النظرية النقدية المعروفة باسم «رد فعل القارئ» التي تطورت بسرعة في الأوساط الأكاديمية الأنغلوسكسونية في ستينيات القرن الماضي من قبل جامعيين مثل الأميركي ستانلي فيش فرضت على الواقع الراهن لنقد النصوص عامل القارئ وتأثيره على التلقي النهائي للنص بمعزل عن محتوى ذلك النص. لكن من البيّن أيضاً أن النصوص بما هي تركيبة قائمة الذات أو «واقع موضوعي» قائم بذاته في ظل ظرفه التاريخي العام يمهد لتضارب ردود فعل لقرائه. خطاب أوباما الأخير في جامعة القاهرة أو «الرسالة إلى العالم الإسلامي» يتيح بشكل خاص الأسس التي تجعل قارئيه / مستمعيه يصنعون منه أكثر من خطاب وأكثر من نص.
ربما ما زلنا نحتاج إلى الأرقام التي تعكس بدقة عدد الذين اهتموا فعلاً بالاستماع إلى «خطاب القاهرة». لكن ردود الفعل المتباينة على الخطاب في الشارع العربي تحيل على حزمة من التباينات لا تنبع فقط من تباينات توقعات القراء والمستمعين للخطاب بل أيضا تباينات محتواه. ورغم كل التباينات لا يمكن تجاهل ما يبدو أنها «بديهيات» الخطاب أو المعطيات التي لا أعتقد أنها يجب أن تفاجئ أحدا والتي من بينها:
أولاً، ومثلما أشرت سابقاً «الخطاب» ليس إلا حلقة جديدة لخطابات سابقة و»الرسالة» إذاً هي مجموعة من الرسالات بدأت منذ لحظة تسلمه مقاليد السلطة وتواصلت عبر خطب، وعبر إشارات رمزية أيضا. بدأ أوباما بالتوجه إلى المستمع والمتفرج المسلم بشكل مبكر منذ توليه مهام منصبه في يناير الماضي، وذلك عبر حوار تليفزيوني ركز فيه لأول مرة على أصوله العائلية الإسلامية وهو ما كان مادة لتعليق الإعلام الأميركي (سلباً وإيجاباً) لبعض الوقت آنذاك، ثم قام بزيارة تركيا التي كانت حلقة من حلقات حملة العلاقات العامة هذه والتي يقوم بها شخصيا وليس من قبل موظف بيروقراطي في وزارة الخارجية مثلما حصل في السنوات الماضية. وكذلك يبرز التشديد الإعلامي المصري على أهمية الخطاب تحديداً من حيث هو «خطاب القاهرة» بل من حيث هو أيضاً «تركيز على الدور المصري الريادي» في المنطقة جزءاً من الخطاب ذاته، برغم أن هناك ما يكفي من المؤشرات الموضوعية إلى أن الدور المصري المأمول أميركياً هو رافد للدور التركي الذي يحظى بثقة أكبر نظراً لثقله الاستراتيجي والعسكري الأقرب لمنظومة الحلفاء الأميركيين.
ثانيا، ترددت بشكل واسع، حتى في الإعلام الأميركي وليس العربي فحسب، مقولة الهوة بين المبادئ العامة المعلنة وتفاصيل السياسة التنفيذية في «خطاب القاهرة». في الموضوع الأكثر حساسية وثقلا أي الصراع العربي- الإسرائيلي قدم الرئيس الأميركي الجمل المعتادة المحيلة على ضرورة أن يقدم الطرفان «تنازلات صعبة» في سياق «حل الدولتين». لكن لم يقدم مثل سلفه إطارا زمنيا لذلك كما لم يبادر إلى طرح أي مرجعية واضحة بما في ذلك القرارات الأممية لتأطير «حل الدولتين».
ثالثا، وهذه نقطة ترددت بشكل خاص من قبل المستمع العربي، برغم إعلان الخطاب وتأكيده على الرغبة في التصرف بشكل متوازن بين الطرفين الأميركي والمسلم/ العربي أو الإسرائيلي والعربي/الفلسطيني فإن الخطاب لم يمثل قطيعة عن المصادرات الكبرى في خصوص طبيعة الصراع في المنطقة، إن لم يكن بإبرازها بوضوح بل من خلال الصمت. لم يتم إبراز المآسي المنجرّة عن احتلال العراق مقابل التركيز على المآسي المنجرّة عن عملية 11 سبتمبر. وكذلك التأكيد على «معاناة الفلسطينيين» وضرورة أن يقوم الإسرائيليون بـ «ضمان أمن الفلسطينيين» وأن «توقف حماس العنف» (تجنب هنا استعمال لفظ «الإرهاب») صمت في نهاية الأمر عن وضع تحديد أصل الصراع بما هو الاحتلال. كما أنه صمت مثلاً عن الأوضاع الراهنة، فالحديث عن «معاناة الفلسطينيين» تم في سياق الصمت على وضع الحصار القائم في غزة.
في مقابل هذه «البديهيات» يجب النظر إلى ما بدا أنه المصدر الرئيسي لترحيب بعض القراء والمستمعين الذين أشادوا بالخطاب أي معظم المعطيات المتعلقة بالنظر إلى الإسلام شكلاً ومضموناً. فرغم أنها تقارب ربما النصوص المدرسية المبسطة فإن الفقرة التالية من الخطاب أساسية بما هي تعبير عن موقف مهم على خلفية الرؤى المتباينة في واشنطن إزاء الإسلام: «الحضارة مدينة للإسلام الذي حمل معه في أماكن مثل جامعة الأزهر نور العلم عبر قرون عدة الأمر الذي مهد الطريق أمام النهضة الأوروبية وعصر التنوير.. وأظهر الإسلام على مدى التاريخ قلباً وقالباً الفرص الكامنة في التسامح الديني والمساواة ما بين الأعراق».
وهنا لا يمكن النظر إلى خطاب من هذا النوع على أنه «مجرد أقوال». إذ إن موقف أوباما هو بمستوى الفعل بما هو يعبر عن موقف في سياق صراع حقيقي قائم على قدم وساق ضد الرؤى الإسلاموفوبية المتضمنة في الخطاب النيومحافظ الذي ساد واشنطن خلال السنوات الماضية بما في ذلك عبر أقلام ومنابر تصدر أحكامها التعميمية حول الإسلام والمسلمين بما هم مصدر حتمي لكل تخلف وإرهاب وهو ما تم تلخيصه في المصطلح المثير للجدال «الإسلاموفاشية». وكانت آخر تمظهرات هذه الرؤى بين بعض قطاعات «الاستبلشمانت» في واشنطن استدعاء بعض النواب الجمهوريين والاحتفاء في أروقة الكونغرس بوجه إسلاموفوبي بارز مثل السياسي الهولندي غيرت فيلدرز. وهذا الموقف كان أكثر وضوحاً في الجملة التالية: «وأرى في ذلك جزءا من مسؤوليتي كرئيس للولايات المتحدة حتى أتصدى للصور النمطية السلبية عن الإسلام أينما ظهرت». كما أن الرغبة في مخاطبة المسلمين من أكثر من عاصمة ومنبر بخطاب «إيجابي» من هذا النوع واقع خطابي ضمن هذا الصراع.
موقف أوباما الذي يدافع بشكل واضح عن مبادئ علمانية أساسية مثل «حرية العقيدة» لم يسعَ لجعلها في علاقة تضاد حتمية مع المنظومة الإسلامية خاصة عندما ركز على وجود واقع التعايش الديني في سياقات إسلامية مثلما شهد هو نفسه في طفولته في إندونيسيا، وهو الأمر الذي يبدو أيضاً متضمناً في تركيزه، بشكل متباين عن الخطاب الأميركي السياسي الكلاسيكي، على المكون المسيحي في «معاناة الفلسطينيين» إلى جانب الغالبية المسلمة. كما لم يسع إلى جعلها نقطة خلافية بقدر ما حاول جعلها ركيزة لنبذ الخلاف الطائفي خاصة السني-الشيعي.
في الواقع يمثل خطاب أوباما في هذا الشأن تركيزا على نسق عام للتجربة العلمانية الأميركية والتي بنيت على أساس احتواء الشعور الديني عوض تهميشه، إذ كان معظم «الآباء المؤسسين» متدينين بما في ذلك كاتب وثيقة الاستقلال وأكثرهم علمانية توماس جيفرسون وتم طرح تمييز الوظيفة السياسية عن الدينية على أسس دينية أحياناً. ومن هذا المنظور تأتي الفقرات المتعلقة بالنقد الضمني في «خطاب القاهرة» الموجه للتجربة العلمانية الفرنسية تجاه جاليتها المسلمة خاصة في علاقة بقضية الحجاب: «من المهم بالنسبة إلى الدول الغربية أن تتفادى منع المواطنين المسلمين من ممارسة ديانتهم كما يشاؤون، مثلا عبر فرض الثياب التي على المرأة ارتداؤها»، وكذلك: «ينبغي عدم إخفاء العداء حيال ديانة معينة تحت ستار ادعاء الليبرالية». وليس هذا الموقف منفصلا عن تجند الأوساط الحقوقية الأميركية بما في ذلك المقربة من وزارة الخارجية الأميركية منذ سنوات في الوقوف ضد القانون الفرنسي المتعلق بمنع الحجاب في المؤسسات العامة.
ما يستحق الاهتمام في خطاب أوباما ليس «البديهيات» المذكورة أعلاه فحسب بل أيضا الكلام المعادي لخطاب الكراهية التعميمي ضد الإسلام والمسلمين والذي هو بمستوى الفعل في سياق الصراع الدائر في واشنطن وخارجها. طبعا هناك جدال عن سبب هذا الموقف المعادي للإسلامفوفوبيا وتشكيك من قبل البعض في صدقيته ومدى ارتباطه بالصراع في المنطقة خاصة تراجع النفوذ الأميركي إثر احتلال العراق. لكن كل تلك الأسئلة تتجاهل في نهاية الأمر الأثر الواقعي لهذا الخطاب والذي يفعل فعله بمعزل عن أسبابه. يكفي ملاحظة رد الفعل الأوساط الإسلاموفوبية التي واصلت الحديث عن «استسلام» أوباما و»تمسحه» غير الضروري للمسلمين حتى نفهم واقعية هذا الصراع.
وتلك، على الأقل، قراءة كاتب هذا المقال لـ «خطاب القاهرة».
الخطاب
طارق الكحلاوي
أصبح من قبيل الكليشيهات الآن الحديث عن دور القارئ في إعادة صناعة النص. النظرية النقدية المعروفة باسم «رد فعل القارئ» التي تطورت بسرعة في الأوساط الأكاديمية الأنغلوسكسونية في ستينيات القرن الماضي من قبل جامعيين مثل الأميركي ستانلي فيش فرضت على الواقع الراهن لنقد النصوص عامل القارئ وتأثيره على التلقي النهائي للنص بمعزل عن محتوى ذلك النص. لكن من البيّن أيضاً أن النصوص بما هي تركيبة قائمة الذات أو «واقع موضوعي» قائم بذاته في ظل ظرفه التاريخي العام يمهد لتضارب ردود فعل لقرائه. خطاب أوباما الأخير في جامعة القاهرة أو «الرسالة إلى العالم الإسلامي» يتيح بشكل خاص الأسس التي تجعل قارئيه / مستمعيه يصنعون منه أكثر من خطاب وأكثر من نص.
ربما ما زلنا نحتاج إلى الأرقام التي تعكس بدقة عدد الذين اهتموا فعلاً بالاستماع إلى «خطاب القاهرة». لكن ردود الفعل المتباينة على الخطاب في الشارع العربي تحيل على حزمة من التباينات لا تنبع فقط من تباينات توقعات القراء والمستمعين للخطاب بل أيضا تباينات محتواه. ورغم كل التباينات لا يمكن تجاهل ما يبدو أنها «بديهيات» الخطاب أو المعطيات التي لا أعتقد أنها يجب أن تفاجئ أحدا والتي من بينها:
أولاً، ومثلما أشرت سابقاً «الخطاب» ليس إلا حلقة جديدة لخطابات سابقة و»الرسالة» إذاً هي مجموعة من الرسالات بدأت منذ لحظة تسلمه مقاليد السلطة وتواصلت عبر خطب، وعبر إشارات رمزية أيضا. بدأ أوباما بالتوجه إلى المستمع والمتفرج المسلم بشكل مبكر منذ توليه مهام منصبه في يناير الماضي، وذلك عبر حوار تليفزيوني ركز فيه لأول مرة على أصوله العائلية الإسلامية وهو ما كان مادة لتعليق الإعلام الأميركي (سلباً وإيجاباً) لبعض الوقت آنذاك، ثم قام بزيارة تركيا التي كانت حلقة من حلقات حملة العلاقات العامة هذه والتي يقوم بها شخصيا وليس من قبل موظف بيروقراطي في وزارة الخارجية مثلما حصل في السنوات الماضية. وكذلك يبرز التشديد الإعلامي المصري على أهمية الخطاب تحديداً من حيث هو «خطاب القاهرة» بل من حيث هو أيضاً «تركيز على الدور المصري الريادي» في المنطقة جزءاً من الخطاب ذاته، برغم أن هناك ما يكفي من المؤشرات الموضوعية إلى أن الدور المصري المأمول أميركياً هو رافد للدور التركي الذي يحظى بثقة أكبر نظراً لثقله الاستراتيجي والعسكري الأقرب لمنظومة الحلفاء الأميركيين.
ثانيا، ترددت بشكل واسع، حتى في الإعلام الأميركي وليس العربي فحسب، مقولة الهوة بين المبادئ العامة المعلنة وتفاصيل السياسة التنفيذية في «خطاب القاهرة». في الموضوع الأكثر حساسية وثقلا أي الصراع العربي- الإسرائيلي قدم الرئيس الأميركي الجمل المعتادة المحيلة على ضرورة أن يقدم الطرفان «تنازلات صعبة» في سياق «حل الدولتين». لكن لم يقدم مثل سلفه إطارا زمنيا لذلك كما لم يبادر إلى طرح أي مرجعية واضحة بما في ذلك القرارات الأممية لتأطير «حل الدولتين».
ثالثا، وهذه نقطة ترددت بشكل خاص من قبل المستمع العربي، برغم إعلان الخطاب وتأكيده على الرغبة في التصرف بشكل متوازن بين الطرفين الأميركي والمسلم/ العربي أو الإسرائيلي والعربي/الفلسطيني فإن الخطاب لم يمثل قطيعة عن المصادرات الكبرى في خصوص طبيعة الصراع في المنطقة، إن لم يكن بإبرازها بوضوح بل من خلال الصمت. لم يتم إبراز المآسي المنجرّة عن احتلال العراق مقابل التركيز على المآسي المنجرّة عن عملية 11 سبتمبر. وكذلك التأكيد على «معاناة الفلسطينيين» وضرورة أن يقوم الإسرائيليون بـ «ضمان أمن الفلسطينيين» وأن «توقف حماس العنف» (تجنب هنا استعمال لفظ «الإرهاب») صمت في نهاية الأمر عن وضع تحديد أصل الصراع بما هو الاحتلال. كما أنه صمت مثلاً عن الأوضاع الراهنة، فالحديث عن «معاناة الفلسطينيين» تم في سياق الصمت على وضع الحصار القائم في غزة.
في مقابل هذه «البديهيات» يجب النظر إلى ما بدا أنه المصدر الرئيسي لترحيب بعض القراء والمستمعين الذين أشادوا بالخطاب أي معظم المعطيات المتعلقة بالنظر إلى الإسلام شكلاً ومضموناً. فرغم أنها تقارب ربما النصوص المدرسية المبسطة فإن الفقرة التالية من الخطاب أساسية بما هي تعبير عن موقف مهم على خلفية الرؤى المتباينة في واشنطن إزاء الإسلام: «الحضارة مدينة للإسلام الذي حمل معه في أماكن مثل جامعة الأزهر نور العلم عبر قرون عدة الأمر الذي مهد الطريق أمام النهضة الأوروبية وعصر التنوير.. وأظهر الإسلام على مدى التاريخ قلباً وقالباً الفرص الكامنة في التسامح الديني والمساواة ما بين الأعراق».
وهنا لا يمكن النظر إلى خطاب من هذا النوع على أنه «مجرد أقوال». إذ إن موقف أوباما هو بمستوى الفعل بما هو يعبر عن موقف في سياق صراع حقيقي قائم على قدم وساق ضد الرؤى الإسلاموفوبية المتضمنة في الخطاب النيومحافظ الذي ساد واشنطن خلال السنوات الماضية بما في ذلك عبر أقلام ومنابر تصدر أحكامها التعميمية حول الإسلام والمسلمين بما هم مصدر حتمي لكل تخلف وإرهاب وهو ما تم تلخيصه في المصطلح المثير للجدال «الإسلاموفاشية». وكانت آخر تمظهرات هذه الرؤى بين بعض قطاعات «الاستبلشمانت» في واشنطن استدعاء بعض النواب الجمهوريين والاحتفاء في أروقة الكونغرس بوجه إسلاموفوبي بارز مثل السياسي الهولندي غيرت فيلدرز. وهذا الموقف كان أكثر وضوحاً في الجملة التالية: «وأرى في ذلك جزءا من مسؤوليتي كرئيس للولايات المتحدة حتى أتصدى للصور النمطية السلبية عن الإسلام أينما ظهرت». كما أن الرغبة في مخاطبة المسلمين من أكثر من عاصمة ومنبر بخطاب «إيجابي» من هذا النوع واقع خطابي ضمن هذا الصراع.
موقف أوباما الذي يدافع بشكل واضح عن مبادئ علمانية أساسية مثل «حرية العقيدة» لم يسعَ لجعلها في علاقة تضاد حتمية مع المنظومة الإسلامية خاصة عندما ركز على وجود واقع التعايش الديني في سياقات إسلامية مثلما شهد هو نفسه في طفولته في إندونيسيا، وهو الأمر الذي يبدو أيضاً متضمناً في تركيزه، بشكل متباين عن الخطاب الأميركي السياسي الكلاسيكي، على المكون المسيحي في «معاناة الفلسطينيين» إلى جانب الغالبية المسلمة. كما لم يسع إلى جعلها نقطة خلافية بقدر ما حاول جعلها ركيزة لنبذ الخلاف الطائفي خاصة السني-الشيعي.
في الواقع يمثل خطاب أوباما في هذا الشأن تركيزا على نسق عام للتجربة العلمانية الأميركية والتي بنيت على أساس احتواء الشعور الديني عوض تهميشه، إذ كان معظم «الآباء المؤسسين» متدينين بما في ذلك كاتب وثيقة الاستقلال وأكثرهم علمانية توماس جيفرسون وتم طرح تمييز الوظيفة السياسية عن الدينية على أسس دينية أحياناً. ومن هذا المنظور تأتي الفقرات المتعلقة بالنقد الضمني في «خطاب القاهرة» الموجه للتجربة العلمانية الفرنسية تجاه جاليتها المسلمة خاصة في علاقة بقضية الحجاب: «من المهم بالنسبة إلى الدول الغربية أن تتفادى منع المواطنين المسلمين من ممارسة ديانتهم كما يشاؤون، مثلا عبر فرض الثياب التي على المرأة ارتداؤها»، وكذلك: «ينبغي عدم إخفاء العداء حيال ديانة معينة تحت ستار ادعاء الليبرالية». وليس هذا الموقف منفصلا عن تجند الأوساط الحقوقية الأميركية بما في ذلك المقربة من وزارة الخارجية الأميركية منذ سنوات في الوقوف ضد القانون الفرنسي المتعلق بمنع الحجاب في المؤسسات العامة.
ما يستحق الاهتمام في خطاب أوباما ليس «البديهيات» المذكورة أعلاه فحسب بل أيضا الكلام المعادي لخطاب الكراهية التعميمي ضد الإسلام والمسلمين والذي هو بمستوى الفعل في سياق الصراع الدائر في واشنطن وخارجها. طبعا هناك جدال عن سبب هذا الموقف المعادي للإسلامفوفوبيا وتشكيك من قبل البعض في صدقيته ومدى ارتباطه بالصراع في المنطقة خاصة تراجع النفوذ الأميركي إثر احتلال العراق. لكن كل تلك الأسئلة تتجاهل في نهاية الأمر الأثر الواقعي لهذا الخطاب والذي يفعل فعله بمعزل عن أسبابه. يكفي ملاحظة رد الفعل الأوساط الإسلاموفوبية التي واصلت الحديث عن «استسلام» أوباما و»تمسحه» غير الضروري للمسلمين حتى نفهم واقعية هذا الصراع.
وتلك، على الأقل، قراءة كاتب هذا المقال لـ «خطاب القاهرة».
إرسال تعليق