الجزء الثاني
غير أن قصة التاريخ المجرد هذه تتقاطع مع تجربتي الجامعية. و بالتالي هي في جزء منها تجربة شخصية جدا. شاءت الظروف أن دخلت الجامعة (للحظات قصيرة متقطعة) قبل الالتحاق بالجامعة و شهدت آخر فصول فورانها مع أواخر الثمانينات. كان ذلك مشهدا ضخما و هائلا بكل المعاني. و لهذا بالتحديد كان رجوعي إليها بصفة الطالب سنة 1993 حالة صادمة بكل المقاييس برغم كل التوقعات حول تراجع بل و انقطاع نفس حركة طلابية أصبحت تتحرك حسب جدول الأوقات المقرر سلفا ممن في يدهم الأمر، أو بمعنى آخر توقفت آنذاك عن أن تكون "حركة". كان علينا أن نتفرج على ملهاة حقيقية قوامها عنصرين: الأول جهاز طلابي سياسي يتبع الحزب الحاكم غير أنه يريد أن يكون كل شيء، حتى أنه كان يترشح في انتخابات "المجالس العلمية" تحت تسميات نقابية (نقابة ضد من؟ و لأجل من؟). و الثاني "اتحاد طلبة" أصبح، أيضا، جهازا كنا نصطلح عليه جميعنا (من هم فيه و من هم عليه) بـ"الشقف"، بما يعني ذلك من فراغ المحتوى و نصاعة الشكل. كان عجز العنصر الأول عن أن يملأ الفراغ السياسي و بالتأكيد النقابي بديهيا إلى غاية لامبالاة أي كان بمحاولة البرهنة حتى عليه، و كان عجز "الشقف" أن يحمي نفسه إلا إذا قرر أن لا يكون مجرد شقف، حالة المفارقة التي ميزت مرحلة التسعينات خاصة أمام تنامي حاجة عموم الطلبة إلى تعبيرات نقابية دنيا يواجهون بها العمليات القيصرية الضخمة التي تقوم بها وزارة الاشراف مثل "الكاباس" و غير ذلك.
كانت هناك فرصة حينها لخلق وضع جديد، يتعالى على حالات الانقسام المؤدلج الكاريكاتوري. إذ كان و لايزال من المثير أن يرى "الطالب العادي" (و حتى بعض الطلبة المسيسين) صراع الديكة حول فتات ايديولوجي في وقت يفتقد فيه الجميع القدرة على الحركة. أصبح حينها للكثيرين واضحا أنه لا يوجد أمل لأي كان من الذين يرغبون في العمل النقابي الصرف، أو السياسي الصرف، او الايديولوجي الصرف أن يستمروا دون افتكاك حق الوجود و الفعل و الكلمة. و تلك كانت معركة جماعية، شكلا و مضمونا. و هنا ربما الأمر الوحيد الذي يجعلني و بعض جيلي من تلك المرحلة ننظر ببعض الفخر إليها: إذ رغم فشلنا الذريع في كثير من أحلامنا الكبرى و لكن (الآن أعتقد، أهمها) تلك الصغرى فإننا استطعنا تجاوز بعض الخطوط الحمر التي مثلت عائقا أمام جامعة حية يعبر فيها الطلبة بشكل صحي و جدي عن رؤاهم السياسية و آمالهم النقابية.. لا أفضل أن أنظر بمنظار وردي إلى تلك المرحلة لكن لا يمكنني ألا اشعر و لو بقليل من الغبطة، الآن، إلى نجاحنا في كسر الحظر الذي ساد بين بداية التسعينات حتى منتصفها ضد "حق الاجتماع العام المرخص" لطرف نقابي محدد (لم يكن ممثلا لكل من هم في الساحة) و باستبعاد صارم لأي تعبير باسم عناوين سياسية و حرصها في أوقات محددة تنتظر ترخصيا مسبقا بيومين بما أفقد الطابع العفوي لأي تحرك نضالي. استطعنا، بعد الكثير من المواجهة و التصميم، افتكاك هذا الحق مجددا من دون الوقوع في الفوضى بل استعماله بكل الحكمة و التوازن الممكنين إذ كنا نعرف هشاشة الوضع الجديد و كنا نحاول الحفاظ على أي مكسب بنواجذ نواجذنا. و الأهم من كل ذلك في غمرة هذا التجاذب أمكن لنا أن نرى في كل منا نقطة مشتركة ما تجعل كل الجدال الايديولوجي الذي توارثناه هزيل المعنى. كانت حالة اكتشاف الجامع بيننا حالة رهيبة و صعبة و لم نمسك بها إلا بالتجربة و الخطأ غير أنها كانت درسا كبيرا، و كانت مبعث انتباه خاص من الطرف الرسمي. لن أنسى مثلا سؤال مسؤول أمني كبير في أحد مراكز التوقيف المعروفة مجموعة منا، جمعت كل التلوينات الفكرية و السياسية الحاضرة آنذاك، عن مغزى وجودنا جميعا في الايقاف ("أش لمكم أصفر على أخضر على أحمر.."). خليط ردة الفعل تلك بين الدهشة و التأمل و الغيض نبهتنا ربما بشكل حاسم إلى واقع كنا نتجنب رؤيته بتأثير كل الميراث الايديولوجي الثقيل الذي كان يخيم علي صدورنا.
لكن مع نهاية التسعينات تبددت مصادر الغبطة الأولية. كان علينا أن نواجه ليس تناحرنا و ترددنا في الامساك بأسباب المرحلة فحسب بل أيضا إصرارا رسميا على منع أي وجود جدي لعمل نقابي و سياسي في الجامعة (عبر الاعتقال الوقتي أو المطول و الابعاد أو المنع من دخول الجامعة)، و فوق كل ذلك و أهمه حالة من التراخي بين عموم الطلبة بما يعكس عدم نضج اللحظة التاريخية ذاتها. كانت أكثر الحالات إحباطا هي الانتقال من حالات حشد تجمع آلاف الطلبة إلى حالة من الفراغ بسبب الامساك أو إبعاد بعض القيادات الطلابية بما يجعل عموم الطلبة في حالة من الدهشة. و في النهاية كان علينا أن نواجه أدوات جديدة نسبيا (ليست غير مسبوقة بكل تأكيد) في الصراع و هي المنع من الدراسة. جربنا أولى اختبارات الوزارة في هذا الاتجاه سنة 1999 (في كلية 9 أفريل مثلا) حيث كان العقاب يتجه نحو "مجالس التأديب" عوض الملاحقات الأمنية غير المجدية في السابق. بدت هذه السياسة الجديدة (التي قاد تنفيذها بالمناسبة عمداء كليات عرفوا بـ"يساريتهم" في وقت من الأوقات) ذات تأثير خاص لأنها تجردنا من سلاح مواجهة سياسية و تنقلنا إلى مجال مواجهة مع البيروقارطية الجامعية و بالنهاية تهدد أصل وجودنا الحركي و النقابي أي الانتساب إلى الجامعة. سيصبح للأسف فيما بعد هذا السلاح ممارسة روتينية برغم نجاح الناشطين الطلبة في محاصرته في البداية و إلى حين (أتذكر أن من اسباب إسقاطه سنة 1999 هو خوف أحد العمداء من صدور إسمه في نشرات وكالات أجنبية و هو الذي يحرص على الحفاظ على واجهة "تقدمية" في الخارج). و هو سلاح ناجع متى لم يستطع الناشطون الطلبة ضمان خلفية تضامنية قوية بين صفوف عموم الطلبة. غير أن ذلك، و هو شرط حركة طلابية قوية و منيعة، لم يتحقق آنذاك، و لا يزال عاجزا عن التحقق الآن. و الاعتقالات في صفوف الطلبة المعتصمين في كلية منوبة و الذين حوكموا و سجنوا أخيرا ربما لم يكن من الممكن منعها لكن كانت ستتم بالتأكيد في ظروف مغايرة لو كان هناك حركة طلابية منتعشة و تضم شكلا و فعلا عموم الطلبة، مثلما كان حال الهياكل النقابية الطلابية في فترات سابقة.
صحّة الطهارة سي طارق
إرسال تعليق