مقال صادر في "العربّ القطرية الاحد9 أوت
http://www.alarab.com.qa/details.php?docId=92627&issueNo=594&secId=15أحمد بن صالح (3)
طارق الكحلاوي
لم يكن بن صالح ملاكاً، بل كان رجل سياسة، ولا يزال. بدت لي بديهية هذه الجملة في حاجة للتأكيد لبعض الإخوة الذين علقوا على مقالتي الأخيرتين حول الرجل. ومن البديهي أيضا أني أكتب عنه وأنا على وعي كامل ببديهة مماثلة. ليس بن صالح بوصفه شاهدا على نفسه هو في موقع الشاهد المحايد، إذ هو، حتى من موقع الشاهد يبقى رجل سياسة. وبعد هذا وذاك مَن هو الشاهد الذي لا يحتاج إلى إثبات؟
نعم أشعر بالتعاطف مع رجل يبدو لي من المثقفين القلائل الذي تمرسوا وفي سن شاب على خوض معترك السياسة زمنَ التحرير وبناء الدولة الوطنية، وكان من هذا الموقع من القلائل الذين تصرفوا بندية مع الرئيس الراحل، واسع السلطات وبلا منازع، الحبيب بورقيبة، خاصة بعد رحيل مؤسسين لـ «الدستوري الجديد» من الطراز الثقيل مثل علي البلهوان والحبيب ثامر وصالح بن يوسف. نعم أشعر بالتعاطف مع شخصية ذلك الشاب في وسط سادته، ولا تزال، العقلية «الأبوية» التي تمنح بالكاد بعض مساحة السلطة للوجوه الشابة والجديدة. نعم أشعر بالتعاطف مع من يتم طمس مساهمته وجهده بمجرد اختلافه مع «الزعيم». وفي هذا المقام بن صالح ليس وحده، إذ من الطبيعي أن أتعاطف مع الكثيرين غيره. غير أن ذلك لا يمكن أن ينقض معطيات وسياقات موضوعية تحيلنا عليها سيرة بن صالح مثل التاريخ الأسطوري لـ «استقلالية» المنظمة النقابية في البلاد، إذ يريدنا البعض أن نصدق أن بن صالح يتحمل مسؤولية فردية في ضياعها، وكأنه من الممكن لـ «تاريخ الأفراد» هذا أن يوجد أصلا.
ورغم هذا التعاطف أيضا كان يجب أن أطرح الأسئلة الصعبة على رجل ليس من المتوقع أن يفاجَأ بها. كانت تتجاذبني، بشكل خاص، أسئلة العلاقة بين بن صالح وصالح بن يوسف. مثلما ذكرت في المقال السابق (الثاني) كان من المثير أنهما كانا من بين الأوائل في الحركة الوطنية الذين تقاسموا فكرة «التحالف» بين «الحزب» و»النقابة» أو ما وقع تسميته بـ «العمالية على الطريقة التونسية» (للتميز عن النموذج «العمالي» البريطاني) وكان ذلك مجرد مظهر آخر على عدم تفرد بن صالح بمبدأ تجاوز «استقلالية» النقابة عن الحزب.
كان الحديث عن بن يوسف متواتراً لدى بن صالح وكان في كثير من الأحيان حديثاً فيه بعض الحسرة والتعاطف وبالخصوص التجاذب بين ميله العاطفي لبورقيبة إزاء ريبته في البداية من بن يوسف الذي رأى فيه بداية الخمسينيات رمزاً لما يسميه «أكابر» الحزب الذين حادوا عن مبادئه. تحدث مثلاً عن عدم تصديقه معظم وجوده في السلطة في ستينيات القرن الماضي الأخبارَ التي تشير إلى بورقيبة نفسه بالتورط في اغتيال بن يوسف زعيم الحزب الأكثر شعبية حتى سنة 1956 والذي كان المنافس الأقوى لبورقيبة على حكم البلاد. كانت صورة بورقيبة، تبعاً لبن يوسف، صورة هلامية ورومانسية وبدأت في التلاشي تحديدا في علاقة بالصراع بين بورقيبة وبن يوسف. يشير بن صالح إلى مسار «اكتشف» فيه بعناء الصورة الواقعية لبورقيبة. في خضم الصراع اليوسفي البورقيبي سنة 1956 يصف إحدى زياراته إلى مقر سُكنى بورقيبة في مدينة المنستير مع أحد قياديي «اتحاد الشغل» وكيف كان يحاول الرئيس الراحل متوترا إقناع زائريه ويضرب على ساق محاوريه بقوة صارخا باللهجة الدارجة «العبوا كارطة بورقيبة» (العبوا ورقة بورقيبة). بدأت صورة «الزعيم» الرصينة تتصدع في المخيلة الرومانسية للشاب بن صالح.
يشير بن صالح أيضاً إلى محاولاته «التوسط» بين الزعيمين واصفاً موقفه بالولاء لـ «السياسات الوطنية» وليس للأشخاص. يشير إلى الموقف المحرج الذي وضعه فيه بورقيبة عندما وافق بناءً على طلب من القيادي جلولي فارس الذهاب إلى بن يوسف واعداً إياه بتأجيل بورقيبة قرار طرد بن يوسف من صفوف الحزب. دخل بن صالح إلى غرفة جلوس بن يوسف والأخير يتكلم في الهاتف بالفرنسية، ثم توجه بن يوسف إلى بن صالح متسائلا عن سبب الزيارة خاصة أن بن صالح كان مرفوقا بأحد قادة المقاومة المسلحة الموالين لبورقيبة، وهو ما بدا لبن يوسف بمثابة التهديد. بادر بن صالح لطمأنة بن يوسف مشيرا إلى عزم بورقيبة تأجيل قرار الطرد. حينها ضحك بن يوسف وبادره بالقول باللهجة الدارجة «أنت نية يا سي أحمد» (أنت ساذج يا سيد أحمد)، إذ أخبر أحد العاملين بوكالة «فرانس بريس» منذ لحظات بن يوسف بوصول بلاغ الطرد إلى الوكالة. وحتى الآن لا يبدو أن بن صالح قد تخلص من الرغبة في منح بورقيبة بعض حسن النية، إذ يشير في أثناء روايته لأخبار من هذا القبيل إلى تأثير بطانة بورقيبة في الأخير خاصة في التحريض على إذكاء نار الصراع مع بن يوسف، ويشير بشكل خاص إلى دور كل من محمد المصمودي والبشير بن يحمد.
بقيت هذه الثقة، خاصة في علاقة بنوايا بورقيبة إزاء بن يوسف، حسب رواية بن صالح حتى المرحلة الأخيرة من بقائه في السلطة وعلاقته الوردية مع بورقيبة حتى آخر ستينيات القرن الماضي، أي بعد سنوات من اغتيال بن يوسف في فرانكفورت سنة 1961. تلاشت هذه الثقة في خضم الصراع مع كتل السلطة الأخرى خاصة تلك المحيطة بحرم الرئيس وما يمكن تسميته بـ «ميليشيا» بورقيبة مثل البشير زرق العيون الذين كانوا حسب بن صالح يسعون لجني مكاسب شخصية على أساس الشرعية التاريخية، وهو ما كان يرفضه بن صالح من خلال موقعه في السلطة الذي كان يسيطر فيه على وزارات ذات بعد اقتصادي ومالي. يروي بن صالح كيف استدعاه بورقيبة ذات ليلة في ذروة هذا الصراع إلى قصره الصيفي في ضاحية المرسى، خاصة بعد مكالمة هاتفية عاصفة لبن صالح مع وسيلة بن عمار زوجة بورقيبة تدخلت فيها لمنح بشير زرق العيون بعض الامتيازات. دخل بن صالح حديقة القصر ليجد بورقيبة مع وسيلة في لباس صيفي وبادر الاثنان لاستقباله بحميمية على العشاء. قضى الجميع السهرة في أحاديث جانبية ليس لها علاقة بالصراع القائم إلى أن قام بورقيبة باستدعاء بن صالح إلى مكتبه الشخصي. تعرض بورقيبة إلى موضوع زرق العيون وضرورة منحه ما يريد لقاء «الخدمات» التي قدمها للدولة ولبورقيبة شخصيا. وحينها بادر بورقيبة إلى عرض رسالة قال إنها بخط صالح بن يوسف يأمر فيها أحد معاونيه بالتحضير لاغتيال بورقيبة، وهنا بالتحديد أشار بورقيبة بوضوح إلى قيامه بأمر زرق العيون باغتيال بن يوسف «قبل أن يتغدى به». يروي بن صالح كيف أن «الصدمة كانت كبيرة» بالنسبة إليه، إذ لم يصدق حتى تلك اللحظة أن يسمح زعيم حركة تحررية مثل بورقيبة لنفسه بقتل رفيق كفاحه ببرود في المنفى. شعر بن صالح أن اللقاء كان يعني أن الجميع معرض للاستئصال والإلغاء وحتى القتل إن لزم الأمر إذا ما وقف أمام رغبة الزعيم ورجاله المقربين.
بدا لي حينها أن مأساة بن صالح الحقيقية اكتشافه أنه ليس من «رجال بورقيبة المقربين» خاصة بالنسبة لرجل بنى خياراته السياسية على أساس الثقة شبه المطلقة في بورقيبة. يشير بن صالح الآن بأثر رجعي إلى أن الرسالة التي أظهرها له بورقيبة لا تحمل في الحقيقة خط بن يوسف وهو الذي كان يعرف خط الرجل عن قرب. إذ يشكك بن صالح في صحة هذه الرسالة الشهيرة التي يتم استعمالها في السنوات الأخيرة بمثابة قميص عثمان الذي يتم به تبرير اغتيال بن يوسف، بما في ذلك من قبل قيادات «ميليشيا» بورقيبة مثل مدير الحزب محمد الصياح في إحدى شهاداته التاريخية.
لكن إزاء هذه الحسرة خاصة الرغبة في التركيز على رواية يظهر فيها بن صالح في موقع «التوسط» بين الزعيمين، تشير الأحداث إلى دور حاسم أسهم فيه في سياق دعم بورقيبة في اللحظات الحرجة في الصراع البورقيبي اليوسفي. يتعلق ذلك بدوره في تنظيم «مؤتمر صفاقس» للحزب سنة 1955 والذي قلب الموازين لمصلحة بورقيبة، وهي الحلقة التي ربما حسمت الصراع ليس بين الرجلين فحسب بل أيضا بين خيارين استراتيجيين للدولة الناشئة. وبهذا المعنى يبدو «مؤتمر صفاقس» السؤال الأصعب في مسيرة بن صالح.
إرسال تعليق