مقال صادر في "العربّ القطرية الاحد 2 أوت
http://www.alarab.com.qa/d
أحمد بن صالح (2)
طارق الكحلاوي
2009-08-02
اللقاء الذي صار بين أحمد بن صالح وصالح بن يوسف سنة 1953 في ستوكهولم أصبح مثيرا للاهتمام، بالتحديد من حيث التفاصيل الخاصة بالنظرة إلى «استقلالية» المنظمة النقابية التونسية عن الحزب الذي قاد مسيرة التحرير الوطني، وخاصة على عدم تفرده بالرؤية التي تميل إلى «تحالف» بين النقابة والحزب، خلال أواسط الخمسينيات، ولهذا يحتاج هذا اللقاء بعض التركيز والتأطير ضمن سياقه التاريخي. كان لقاءً للمشاركة غير المسبوقة للحزب في «الاشتراكية الدولية» (Socialist International) أحد المنظمات التي ستشكل حتى الآن أحد مراكز الثقل في العلاقات الدولية، وحيث سيحافظ بن صالح على وجود سياسي بارز حتى بعد إقصائه من السلطة في تونس. إذ نسج علاقات شخصية، مستفيدا من تمثيليته للحزب في بروكسيل، حيث كان أيضاً عضواً للمكتب التنفيذي في منظمة دولية أخرى شكلت منبراً مهماً بالنسبة للحركة الوطنية التونسية، ثم أيضاً في بدايات الدولة الوطنية «الكونفدرالية الدولية للنقابات الحرة» (International Confederation of Free Trade Unions) التي تأسست سنة 1949 في سياق الجدال حول «مشروع مارشال» ومن ثم تأثر النقابات بالصراع بين معسكري الحرب الباردة، كانت منظمة نقابية دولية ستوفر مدخلاً خلفياً للنفوذ الأميركي الدولي والعلاقات المتنامية بين قوى التحرر الوطني والولايات المتحدة خلال الخمسينيات. وهكذا مثلما كان وسيصبح في سياق الحركة الوطنية، كان بن صالح خلال الخمسينيات يلعب دوراً مزدوجاً نقابياً-سياسياً على المستوى الدولي، سيمنحه بعض المساحة للتحرك عندما يفقد نفوذه في تونس.
بوصفها امتداداً لـ «الأممية الاشتراكية» العتيدة أصبحت «الاشتراكية الدولية» الإطار الجامع للتيار «الاشتراكي- الديمقراطي» منذ مؤتمر فرانكفورت سنة 1951، وهو التيار الذي سيمثل قاطرة رئيسية للتحول نحو «دولة الحماية الاجتماعية» (welfare state) في السياق الغربي إثر الحرب العالمية الثانية بشكل عام. كما ستصبح «الكونفدرالية» النقابية المؤسسة حديثا وبسرعة الإطار الجامع للنقابات الموالية للأحزاب الاشتراكية الديمقراطية التي كانت تخوض صراعات محلية وإقليمية ضد النقابات الموالية أو القريبة من الأحزاب الشيوعية. إذ كان أحد سمات المرحلة الصراع ليس بين الليبرالية والتوجهات ذات الطابع «الاجتماعي»، بل أيضا الصراع حول مضمون هذه التوجهات «الاجتماعية» بين التيارين «الاشتراكي الديمقراطي» والشيوعي. وبشكل عام قام هذا الصراع الأخير بتغيير «العالم الحر» أو المعسكر «الرأسمالي» تعريفه لذاته. هذا السياق التاريخي الذي كان تشكّل للتو أو بصدد التشكل حدث أمام أعين الجناحين النقابي والسياسي للحركة الوطنية، وبالتحديد أمام أعين الناشطين الوطنين العاملين في الخارج، مثلما هو حال أحمد بن صالح وصالح بن يوسف خلال تنقلاته خارج البلاد. إزاء عزلة دولية تفرضها علاقات قوة كبرى آنذاك مثلما هي فرنسا كانت هذه الفرص للتواجد ضمن منابر دولية سمحت بها تحولات الوضع الغربي الداخلي فرصا غير مسبوقة للتأسيس للذراع الدبلوماسية للحركة الوطنية. غير أنها في نهاية الأمر أسست أيضاً ليس لانخراطٍ ذرائعيٍ للحركة الوطنية في هذا التيار الدولي بل جعلتها تتأثر من حيث المضمون.
وهكذا كانت دعوة صالح بن يوسف للمشاركة في مؤتمر ستوكهولم لـ «الاشتراكية الدولية» ليست مجرد مناسبة للتأثير الدبلوماسي القائم على قدم وساق في مصلحة الحركة الوطنية، بل أيضا جزءا من إرهاصات بداية التأسيس لتبني الحزب لخطاب ما بعد الاستقلال وأفكار بناء الدولة الوطنية. وهنا حدث لقاء بين الرجلين، بن يوسف وبن صالح، كان أيضا لقاءً فكرياً ساهم فيه بشكل حاسم السياق التاريخي الدولي، وبالتحديد الانخراط في تصاعد نفوذ التيار «الاشتراكي-الديمقراطي» على المستويين السياسي والنقابي. ولا يجب النظر إلى هذا الانخراط بشكل منفصل عن الإرهاص الدولي الآخر الحاسم بالنسبة لتشكل ملامح الحركة الوطنية، وبالتحديد تيار «عدم الانحياز» المنضوي ضمن الحركة «العالم-ثالثية» ذات العلاقة الوطيدة بالتيار «الاشتراكي-الديمقراطي» خاصة في الدول الغربية غير المنخرطة في تجارب استعمارية. هذا التيار الذي دخل مرحلة تأثير دولية جديدة غير مسبوقة إثر مؤتمر باندونغ سنة 1955. ما يجب التنصيص عليه هنا على الهامش أن مؤتمر باندونغ، هو المحطة الثانية وليس الأولى لمسار دولي في سيرة الشخصية الرئيسة المنافسة لبورقيبة في الحركة الوطنية صالح بن يوسف. والمحطة الدولية الأولى المهمشة نسبيا هي مؤتمر ستوكهولم سنة 1953.
يشير بن صالح في هذا الإطار إلى «التحرير المشترك» بينه وبين بن يوسف للخطاب الذي ألقاه الأخير في ستوكهولم، والذي لا يزال يحتفظ بنسخة من مسودته بخطه وبتصحيحات لصالح بن يوسف. يتحدث بن صالح عن «الالتقاء العفوي» في اختيار العبارات وتحديد الأفكار الرئيسية للخطاب. وتبدو العبارة والفكرة الرئيسية في الخطاب، الذي كتب بالفرنسية، هي «العمالية على الطريقة التونسية» (Travaillisme a la Tunisienne). ورغم شكلها الفرنسي فالفكرة تعبر بوضوح عن «الاستقلالية» المرجعية على مستوى أفكار بناء الدولة الوطنية عن السياق الفرنسي. إذ كانت حينها ترجمة شائعة لتيار نموذجي بريطاني في التجارب الاشتراكية الديمقراطية، النموذج «العمالي» البريطاني والذي استبدل العبارة الإشكالية لـ «الاشتراكية» بعبارة «العمالية» (Labourism)، وهو ما لم يكن مجرد تحديد تمييز مرئي ولغوي بين «الاشتراكية الشيوعية» و «الاشتراكية الديمقراطية» في مجال أنجلوسكسوني لا يزال يحافظ على علوية مرجعيته «الليبرالية» وريبته من أي مرجعية «اشتراكية» في الشكل أو المضمون، بل عبّر أيضاً عن تجربة تنظيمية وفكرية خاصة في بريطانيا انتقلت لاحقا إلى المجال الشمال أوروبي الاسكندينافي.
كان هناك وعيٌ بالتجربة العمالية البريطانية، حسب بن صالح، من قبل الاثنين عند تحرير الخطاب. طبعا هذا الوعي ومسار التأثر لا يعني ضرورة تمثُلٍ استنساخيٍ لهذه التجربة، ولكنْ تمثل استرشادي. النقطة الرئيسة هنا هي حول «التحالف» بل الارتباط العضوي التاريخي بين النقابي والسياسي. التحالف النقابي الواسع في بريطانيا (المؤسس منذ القرن التاسع عشر) «مؤتمر النقابات» (Trade Unions Congress) أسس منذ سنة 1900 لما سمي آنذاك بـ «اللجنة التمثيلية العمالية» والتي كان مقرراً لها أن تمثل «الطبقة العاملة البريطانية» في «مجلس العموم». كان يجب أن تمر عشريّتان على الأقل حتى أصبحت هذه اللجنة حزباً قائم الذات يلعب دوراً رئيسياً في الحياة السياسية البريطانية.
طبعاً نموذج تأسيس النقابة لحزب يمثلها سياسيا ثم التميز التنظيمي لهذا الحزب عن النقابة، وانعكاس الوضع ليصبح «حزب العمال» البريطاني أحياناً منافساً لـ «مؤتمر النقابات»، ليس نفسه مسار العلاقة بين الجناحين النقابي والسياسي للحركة الوطنية التونسية. ينقل بن صالح مثلا حادثة الفيتو الحزبي الذي كان مسلطا عليه من قبل أحد أبرز مسؤولي الحزب (المنجي سليم) معترضا على انتخابه في موقع الكاتب العام لاتحاد الشغل، وكيف أن نقابيا كبيرا ذا نفوذ سياسي في الحزب مثل أحمد التليلي كان وحده القادر على رفع هذا الفيتو. وهي حادثة لا تبدو متعارضة مع مؤشرات أخرى على النفوذ الذي كان يملكه الحزب على النقابة، والذي يؤكد مرة أخرى أنه يوجد نوع من الفكرة السائدة السابقة علي بن صالح أو التي لا يتفرد بها والقاضية بعلاقة «تحالف» أو ربما «خضوع» من أحدهما للآخر. بما يعني أن فكرة «الاستقلالية» غير ممكنة وفقاً لسياق أواسط الخمسينيات وحتى بعدها في الستينيات، من جهة القيادات النقابية والسياسية على السواء. وهو ما يجعلنا أمام تاريخ «أسطوري» أو متوهم لمبدأ «الاستقلالية».
من جهة أخرى فإن محصلة التجربة البريطانية هي هذا التحالف الهيكلي والفكري والسياسي، والذي كان على ما يبدو يجذب الاهتمام والانخراط لدى حركة وطنية لا يبدو أنها فكرت بما فيه الكفاية في ما بعد الاستقلال. أفكار مؤتمر ستوكهولم التي جمعت بن صالح ببن يوسف سيتم تبنيها آجلاً مع منح بن صالح خلال الستينيات صلاحيات كبرى في الملفين الاقتصادي والاجتماعي. غير أنها تعطلت في أوساط الخمسينيات خاصةً حسب بن صالح لارتياب بورقيبة من «ابتلاع» الحزب من قبل النقابة. لا يبدو ذلك مجانبا للصواب تماما، إذ أصبح الحزب ضعيفا في سياق الصراع البورقيبي اليوسفي إلى الحد الذي يمكن له فيه أن يذوب في مؤسسات أكثر قوة، وكان «اتحاد الشغل» أبرزها. غير أن ما حصل لاحقا، أن الحزب هو الذي «ابتلع» النقابة، وهو ما لم يكن لشهية بورقيبة المفتوحة دائما للابتلاع أن ترفضه بأية حال، ورغم أن بن صالح لم يكن متفردا في المسؤولية عن ذلك كما يمكن أن توحي به بعض القراءات اللاتاريخية.
إرسال تعليق