المقال الأول هنا
المقال الثاني صدر (هنا) في "العرب" القطرية في 19 أفريل 2009
بــورقيبة (2-3)
طارق الكحلاوي
"التحديث يطرح دائما التحدي ذاته، أي حقن روح عقلانية ووضعية يقف أمامها الإسلام عاجزا تماما"
دانيال ليرنر (Daniel Lerner)، "تجاوز المجتمع التقليدي" (1958)
تلعب الأساطير دائما دورا يتجاوز أبطالها، حيث تصبح أداة لا تعيد خلق الأوهام فحسب، بل أيضا تصنع الوقائع، أو في أقل الأحوال تتجاوب مع رغبات واقعية لتوفر لها مشروعية ما. هكذا هي البورقيبية الآن، ميراث للتأصيل السياسي وحتى الفكري لمن ضجر من الابتعاد عن «أصول وطنية» في استثماره للعمل السياسي. الأمر المفارق أن البورقيبية تستعيد نجوميتها من قبل ضحاياها، وبالتحديد من خلال إعادة إنتاجهم لأحد أهم أركانها.. أن سيرة الزعيم هي سيرة الوطن، وأن في سيرته يمكن أن نجد البنى المؤسسة للمستقبل. ومرة أخرى يجب علينا أن نستمع إلى سرد جوهراني-تطوري لـ «تاريخ الوطن»، حيث هناك جوهر «نتقدم» نحوه، وبورقيبة هو مرحلة تحقق فيها هذا الجوهر «التجديدي». ومن بين «الأساطير المؤسسة» للبورقيبية والمستعملة في السياق الراهن كرأسمال سياسي بطرق معقدة أو شعبوية، هناك نموذجان يستحقان التفكيك، أسطورة البورقيبية «الحداثية-العلمانية» وأسطورة البورقيبية التي كانت «حكيمة» و «ريادية» في طرح «حل الدولتين» فيما يخص الصراع العربي-الإسرائيلي. سأتعرض هنا إلى الأولى لأترك الثانية إلى المقال القادم.
في صيف 2004 التقيت طيف بورقيبة حيث لم أكن أتوقع لقاءه. كانت زيارتي الأولى إلى اسطنبول ذلك الصيف في سياق الإعداد لرسالة الدكتوراه، والتي قادتني إلى مخطوطات نادرة محفوظة في مكتبات عامة وخاصة. وفي أحد الأطر من النوع الأخير، التقيت بمجموعة من المسنين الأتراك المتدينين والمحبين للمعرفة خاصة ذات الخلفية التاريخية الإسلامية. وفي الوقت الذي كنت أتوقع فيه حوارا حول مخطوطات ابن حوقل، انهالت علي ألسن أصدقائي الجدد تكرر أمرا واحدا بعربية طفولية: «ما رأيك في بورقيبة؟» كان من الطبيعي أن يستذكر مسنون أتراك في بداية القرن 21 سيرة تونس بسيرة الزعيم الراحل. ما كان مثيرا للانتباه في المقابل، هو شغفهم الكبير بتجرؤ بورقيبة في قول ما كانوا يرغبون قوله عاليا عندما زار تركيا سنة 1965 وألقى خطابه الشهير أمام البرلمان يوم 25 مارس منتقدا فيه توجهات أتاتورك في إلغاء الخلافة العثمانية و «فرض اللائكية» واستنساخ التجربة التحديثية الفرنسية. سرد لي أصدقائي الشيوخ بحيوية لافتة ما ترسب لديهم من تلك الزيارة. لم يكن هؤلاء المسنون الأتراك إسلاميين، بل كانوا أتاتوركيين شديدي الاعتزاز بـ «مؤسس الدولة» (الذي كانت صوره تؤثث أركان المكتبة)، لكن كانوا منتقدين لرؤية الزعيم التركي الراحل لعلاقة الدولة بالدين. نعرف الآن أن هؤلاء كانوا في الواقع تعبيرا عن جيل تركي جديد أعاد تعريف الأتاتوركية بصمت منذ خمسينيات القرن الماضي، لتصبح إيديولوجيا الدولة الوطنية، ولكن لتعيد تعريف تركيا من خلال غالبيتها المسلمة في مواجهة «الخطر الشيوعي» الداهم من الشمال. كل ما قام به بورقيبة آنذاك هو التصريح بواقعية التوجهات التركية الجديدة.
كان بورقيبة بالنسبة لهؤلاء «زعيما مسلما» بالأساس يدافع عن دور رسمي للدين. كانت تلك الصورة مفاجئة بالضرورة حتى بالنسبة لتونسي لا ينظر إلى بورقيبة من زاوية علاقته بالدين، فما بالك إذا أضفنا إلى ذلك كل الميراث المتعلق بتصادم بورقيبة مع «الإجماع الديني» مثلما حصل في حادثة إباحة إفطار رمضان في إطار «الجهاد الاقتصادي» (فبراير 1960). لكن هي صورة متعارضة بالأساس مع صورة «الزعيم اللائكي» المنتشرة الآن كالفطر. بعيدا عن التمثلات الانطباعية نعرف الآن ما يكفي من المعطيات (مثلا مثلما بينت بعض مداخلات ندوة «الحبيب بورقيبة وإنشاء الدولة الوطنية» سنة 1999 وندوات أخرى بعدها لـ «مركز التميمي» وكذلك كتاب «الزعامة والإمامة» للصحافي لطفي الحجي) التي تشير إلى أن بورقيبة لم يقم بأي إصلاحات اجتماعية عبر مؤسسات الدولة من دون الحرص على «تأصيلها» بأي شكل من الأشكال من الزاوية الدينية. أول وأهم المدونات القانونية التي دفع بها إلى الأمام -أي «مجلة الأحوال الشخصية» (1956)- لم تكن سوى صياغة جديدة لـ «لائحة الأحكام الشرعية» التي أشرف على صياغتها الشيخ محمد العزيز جعيط منذ سنة 1948 وشارك في إحيائها بعد الاستقلال وزير العدل أحمد المستيري. وبرغم أن المجلة كانت مثيرة لجدل واسع فور إعلانها خاصة من قبل أوساط شيوخ الدين التونسيين، وبمعزل عن الجدل حول مدى «تطابقها مع الشرع»، فإنه من اللافت دفاع القانونيين التونسيين آنذاك عنها من زاوية «تطابقها مع روح الإسلام» (خاصة في مقالات في «مجلة القضاء والتشريع» التونسية).
ليس من الصعب ملاحظة حرص بورقيبة الدائم على التعامل مع المسائل الدينية من داخل المنظومة الدينية وليس من خارجها. كان يرغب في التصرف ليس كـ «مصلح ديني» فحسب، بل كرجل الدين الأول في البلاد، رغم عدم توفره على ما يكفي من الأدوات المعرفية للمتفقهين الدينيين للقيام بذلك، وهو ما وضعه بشكل متكرر أمام صدام عنيف مع الأوساط الدينية. الخطاب الذي جلب إليه تكفير مشايخ محافظين (18 مارس 1974) كان بالأساس في سياق يحاول التركيز على الهوية الإسلامية لتونس زمن صعود تيارات يسارية راديكالية في البلاد. إذ التركيز الوارد في الخطاب على خطورة «التطاحن» وضرورة الحفاظ على «الشخصية التونسية» المتماهية مع الإسلام الذي أنهى التطاحن القبلي العربي كانت قراءة مسيسة ومتدينة في الوقت نفسه للواقع السياسي التونسي منتصف السبعينيات، تحاول في نهاية الأمر تصوير الصراع السياسي القائم آنذاك ضمن سياقات التطاحن القبلي المضاد للإسلام. لكن الأهم أنه من العنوان (الإسلام دين عمل واجتهاد) إلى مقتطفات الخطاب بما في ذلك الاستشهاد المتكرر بما قدمه بورقيبة على أنه سيرة وأحداث خاصة بالرسول في سياق التأكيد على رؤى تتعلق بالحاضر، هي في الجوهر لا تختلف بأي حال عن خطاب «الإمام-الأمير»، وهو نموذج في الحكم لم يتكرر كثيرا عبر التاريخ الإسلامي لكن يمثل -يا للمفارقة- أقصى تمظهرات الدولة الدينية، بمعزل عما إذا كان توصيفنا لهذا الخطاب «إصلاحيا» أو «رجعيا» أو «خارجا عن أصول الشريعة». هذا الوضع جعل بورقيبة بديلا أو وسيطا من موقع الرئيس عن سلطة رجل الدين. ومن اللافت أن إدراج مادة الدستور الأولى («تونس دولة دينها الإسلام») تم على إثر توافق توصل إليه بورقيبة بين رأي الشيخ محمد الشاذلي النيفر (الذي طالب بإدراج جملة «تونس دولة عربية إسلامية») ورأي الباهي الأدغم الذي اعترض على هذه الصيغة (مراعاة للمجتمع الدولي)، وذلك حسب شهادة مصطفى الفيلالي في جلسة في «بيت الحكمة» منذ حوالي العام (نقلا عن جريدة «الصباح» التونسية 8 مايو 2008). وفي الواقع لم يقم بورقيبة بما هو غير متوقع عندما تمسك وحتى رفاقه بتصريف الدولة وحتى احتكارها للشأن الديني.
أسطورة «بورقيبة اللائكي» هي جزء من أسطورة «بورقيبة الحداثي». ويجب التوقف هنا عند تمييز منهجي ضروري بين «نية التحديث» و «تحقق الحداثة». كان بورقيبة يمارس نسخته الخاصة لـ «نظرية التحديث» (modernization theory) التي ازدهرت بشكل خاص في نهاية خمسينيات القرن الماضي. دانيال ليرنر (المذكور أعلاه) أحد أهم مهندسيها، كان تعريفه للحداثة خاصة في المجال العربي (مجال اختصاص ليرنر) يقتضي بشكل رئيسي استعمال آلة الدولة بشكل قسري لاستنساخ حداثة تعتبر أن المشكل الرئيسي الذي يسمح بتحققها هو نقض التأثير الديني. كان أتاتورك نموذج هذه الرؤية. الفرق الوحيد أن بورقيبة لم ينقض سلطة القول الديني بقدر ما حاول توظيفها لـ «إصلاحه». لكن في كل الأحوال، ومثلما توصل النقد ما بعد الحداثي لـ «نظرية التحديث»، خاصة مع أزمة الدول العربية ما بعد الكولونيالية في نهاية الثمانينيات، كان هذا «تحديثا ساذجا». إذ كان في نهاية الأمر متناقضا في الجوهر مع فلسفته الحداثية بمجرد تعويله على مفهوم قهري لسلطة الدولة يصل حتى تهميش التسيير الديمقراطي ويصطنع «تطورا» تشريعيا غير مؤسس على سلطة الاختيار الديمقراطي ليفسح المجال لـ «الرجوع إلى الوراء» في أي وقت. والنموذج البورقيبي للدولة «الحداثية» لم يكن قسريا ومستبعدا للتسيير الديمقراطي فحسب (تحت شعار «الحرية المنظمة»)، بل كان مشخصنا بشكل فارق، يسترجع أكثر نماذج عبادة الشخصية الكاريكاتورية. وذلك ما لا نحتاج حتى أن نفصل فيه.
إرسال تعليق