رابط المقال... و صورة المقال
نص المقال
في الاسلاموفوبيا (5)
الكتاب الأول الذي نشره "ابن الوراق" و الذي جمع فيه دراسات اكاديمية عن التاريخ الاسلامي كان بعنوان "أصول القرآن" (1998). جميع المقالات باستثناء مقالين كتبها الجيل الأقدم من المستشرقين الذين اهتموا بموضوع "الدراسات القرآنية" و هو ما يفسر العنوان الفرعي للكتاب "مقالات كلاسيكية للكتاب المقدس للاسلام". من بينها مقال المستشرق الألماني ثيودور نولدكه (Theodor Nöldeke) و الذي لخص فيه سنة 1891 دراسته الكلاسيكية المنشورة سنة 1860 "تاريخ القرآن" و التي أسست لجميع الرؤى الاستشراقية الأولية حول موضوع "الدراسات القرآنية" و تحصل مقابلها على جائزة "أكاديمية النقائش و الآداب" الفرنسية. نجد كذلك دراسة لأبراهام غايغر (Abraham Geiger) الذي كان من مؤسسي تيار "اليهودية الاصلاحية" في ألمانيا و كتب دراسة سنة 1832 حول "الأصول اليهودية للاسلام". كما نجد أيضا دراسة الأمير الإيطالي ليوني كايتاني (Leone Caetani) و الذي نشر دراساته حول التاريخ الاسلامي في بداية القرن العشرين. و نفس الأمر بالنسبة للأب اليسوعي هنري لامانس (Henri Lammens) الذي نشر في نفس الفترة. و البريطاني الأب سانت كلير تيسدال (W. St. Clair Tisdal) رئيس البعثة التبشيرية لـ"كنيسة انقلترا" في إيران نهاية القرن التاسع عشر و بداية القرن العشرين. الأفكار الأساسية التي دافع عنها هذا الجيل من المستشرقين في علاقة بالقرآن هي "الأصول المسيحية و اليهودية للقرآن" و تفنيد أي تميز فيه عما سبقه.
قدم هذا الجيل المؤسس من المستشرقين إضافات أكاديمية على مستوى المنهج خاصة في نقد المصادر الاسلامية بما في فيها الاخبارية و مدونات الحديث و مساءلة روايتها (كما فعل أحيانا كايتاني على سبيل المثال) و حتى ملامسته للاسلاموفوبيا من أسس أكاديمية (مثلما هو حال لامانس مثلا كما سأذكر أسفله) لا يمكن مقارنتها بسطحية و هشاشة "الاسلاموفوبيا الأكاديمية" الخاصة بـ "إسلاموفوبيي الخدمة" و هي بالأساس استنساخية مثلما هو حال "أعمال" ابن الوراق. لكن استحضار هذه الدراسات و إعادة تجميعها من قبل الأخير ليست مجرد مصادفة. فمن الضروري التوقف هنا عند نقطة أساسية و هي أن الرؤى العامة لهذا الجيل من المستشرقين لم تحقق قطيعة على مستوى نقاط التركيز و المضمون عن الرؤى التي سيطرت خلال الفترة القروسطية على الكتابات المسيحية عن الاسلام. فبالرغم من التعمق المنهجي و المعرفي لهؤلاء المستشرقين الرواد و غالبيتهم من الذين قاموا بمقاربات لغوية بوصفهم متضلعين في "اللغات السامية" (عربية و عبرية و أرامية-سريانية) فإن الاشكاليات المدروسة و بالتحديد موضوع "أصول القرآن" (في إشارة خاصة إلى "أصوله المسيحية و اليهودية") و كذلك المضمون الذي يتميز بشكل دائم بـ"التشاؤمية" و "التشكيك المنتظم" (مثلما يشير "إبن الوراق" في مقدمته) في الرواية التاريخية الاسلامية و إدعاء تقديم بديل راديكالي عنها هي ذاتها مميزات الكتابات المسيحية القروسطية عن الاسلام. و تسنى للباحثين الآن الاطلاع بشكل أكثر دقة على هذه الكتابات القروسطية من خلال دراسات جديدة مثل كتاب توماس بورمان (Thomas Burman) حول "قراءة القرآن في المسيحية اللاتينية 1140-1560" مما يمكننا من مقارنتها مع الدراسات الاستشراقية التي بدأت منذ القرن التاسع عشر و التي تم النظر إليها تقليديا بأنها تمثل قطيعة مع ما سبقها. إذ يفصل بورمان في كتابه و الذي اعتمد على دراسة ممنهجة لقائمة طويلة من المخطوطات غير المنشورة كتبت في القرون الوسطى في الأديرة الأوروبية هيمنت الاهتمام فيها بموضوع "أصول القرآن" و بالتحديد من زاوية سجالية تنطلق منهجيا من مسلمة "ضلال القرآن" و تضع مسبقا نصب أعينها إثبات "الأصول المسيحية" أو "التوراتية" عموما للقرآن و من ثمة "تزييفه" للمسيحية.
الاستعداد المبدئي لإثبات خلو الاسلام (عبر القرآن) من أي تميز و أنه مجرد "نسخة مزيفة" من المسيحية أو اليهودية هي نفس مقاربة الجيل الأول من المستشرقين بما يمثل تواصلا مع الرؤية القروسطية الصادرة من أوساط دينية. و في هذا السياق لا يبدو من الصدفة أن عددا من أقطاب الجيل المؤسس من مستشرقي القرن التاسع عشر و بداية القرن العشرين هم رجال دين مسيحيون و يهود و بعضهم كان جزءا من التركيبة الاستعمارية أو شبه الاستعمارية الأوروبية في الربع الأول من القرن العشرين (مثلا لامانس في لبنان و تيسدال في إيران). كما أنه ليس من الصدفة أن أول اتهام مسجل تاريخيا بـ"الاسلاموفوبيا" كان موجها لأحد أقطاب هذا الجيل من المستشرقين و رجال الدين أي الأب لامانس إثر نشره كتابه حول سيرة الرسول في بداية عشرينات القرن الماضي. و هنا يجب استحضار مقاربة إدوارد سعيد لاستشراق القرن التاسع عشر و بداية القرن العشرين لفهم هذا الجيل من المستشرقين بالنظر إلى الخلفية الكولونيالية لاستشراقهم. فبالرغم من صحة الانتقادات التي وجهت إلي سعيد خاصة حول الارتباط الميكانيكي بين جنسية المستشرق و الانخراط الاستعماري بلده و حول خلو عمله من أي تركيز على دراسات المستشرقين الألمان (في إشارة إلى باحثين مثل نولدكه و غايغر) و اقتصاره على مستشرقين من أقطار مارست الاستعمار مثل بريطانيا و فرنسا فإن ذلك لا يعني أن رؤية سعيد العامة من دون أساس. الأصول الألمانية لبعض رموز الجيل المؤسس من المستشرقين لا يعني عدم تميزهم بنفس ميزات "الاستشراق الكولونيالي" لمعاصريهم الفرنسيين و البريطانيين. ليس لأن كان هناك تواصل معرفي واضح بين المستشرقين العاملين ضمن هذه الفضاءات الجغرافية (مثلما هو واضح في مثال نولدكه مثلا) بل لأن الجامع هنا بينهم ليس الخلفية الجيوسياسية بل الخلفية الثقافية "المسيحية اللاتينية" و التي تفسر تشابه اهتماماتهم في علاقة بدراسة الاسلام من خلال مسائل مثل "اصول القرآن". إذ من الممكن أن نرى أن الاشكال المنهجي الرئيسي بالنسبة لرؤية إدوارد سعيد لموضوع الاستشراق هو تركيزه على الخلفية الكولونيالية الحديثة و طابعها السياسي بمعزل عن أصولها الثقافية المؤسسة قروسطيا. و من هذا المنظور أيضا يجب النظر إلى محاولات الإحياء لأطروحات و مقاربات "الاستشراق الكولونيالي" التي استرجعت قواها بشكل خاصة مع سبعينات القرن الماضي، و للمفارقة في نفس المرحلة التي عرفت التأسيس للنقد المنهجي لـ"الاستشراق الكولونيالي".
إذ على هامش الرؤى الاستشراقية العامة السائدة في الفترة ما بعد الكولونيالية و بعد تعرض السرديات الخاصة بـ"الاستشراق الكولونيالي" لانتقادات قوية منذ بداية ستينات القرن الماضي من مستشرقين مثل مكسيم رودنسون و برنارد كوهن استرجع بعض المستشرقين الآخرين خاصة في السياقين الأنغلوسكسوني (خاصة البريطاني) و الألماني أطروحات و اهتمامات الجيل الأول من المستشرقين. فالمنشورات الاستنساخية لابن الوراق ليست سوى محاولة توظيفية لعمليات الاحياء هذه و هو ما ينعكس في احتواء كتاب "أصول القرآن" على مقالين لرمزين من هذه مدرسة "المراجعة" الجديدة و المتواصلة إلى اليوم أرثور جيفري (Arthur Jeffrey) و أندرو ريبين (Andrew Rippin). في المقابل سيرد "الاستشراق ما بعد الكولونيالي" (المؤسس على أنقاض "الاستشراق الكولونيالي") على ذلك من خلال التأكيد على الطابع "التشاؤمي" بشكل غير مبالغ فيه لهذه المقاربات الجديدة تجاه المصادر التاريخية الاسلامية و أيضا الخلفية "المعادية للاسلام" و "السجالية" لبعضها. كما ستركز على الفارق بين موضوع "الدراسات القرآنية" و اختزال الأخيرة في إشكالية "أصول القرآن". و هو ما سنفصل فيه في المقال القادم.
إرسال تعليق