مقال صدر في "العرب" القطرية الاحد 19 جويلية 2009
الرابط
http://www.alarab.com.qa/d
الحزب ومغزى صراع الذكريات
طارق الكحلاوي
2009-07-19
تكثفت في الأشهر الأخيرة حوارات ومقالات وتقارير في الإعلام التونسي تتصل بالحدث التاريخي، غير أنها بقدر ما تعكس اهتماما بالماضي فهي تعكس أيضا هموم الحاضر. هناك التقارير التي غطت جلسة نظمتها «مؤسسة التميمي» ذات الاهتمام التاريخي قدمت فيها شهادة (على حلقتين في انتظار حلقة ثالثة) لأحمد التليسي والذي كان يشغل موقع «الحارس الشخصي» للرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، ولكن الأهم أنه كان محققا ومشرفا على ملاحقات أمنية طالت أواخر الخمسينيات الشق «اليوسفي» (نسبة إلى صالح بن يوسف خاصة تياره ذي الميول العروبية-الإسلامية) داخل الحزب الرئيسي لحركة التحرير الوطني، الحزب الحر الدستوري الجديد. شهادة التليسي استفزت -ولا تزال- ردود فعل وتعقيبات متنوعة زادت في إثارتها. في ذات الوقت يواصل أحمد بن صالح -الذي كان أكثر الوزراء التونسيين حيازة لحقائب وزارية في الستينيات والرجل الثاني في الدولة قبل ملاحقته من قبل بورقيبة- نشر مذكراته من خلال حوارات صحافية. وبرغم أنها ليست الأولى من نوعها، إذ سبق له نشر بعضها عبر «مؤسسة التميمي» سابقا، فإن نشرها في صحيفة واسعة الانتشار مع صورته أحيانا في صدر الصفحة الأولى جعل هذا الرمز السياسي في التاريخ المعاصر للبلاد حاضرا من جديد في المشهد العام، رغم تواصل تجاهله من قبل مؤسسة الإعلام الرسمية لعقود.
في الحالتين لدينا حلقة جديدة من حلقات تحدي التاريخ الرسمي «البورقيبي» للحركة الوطنية، وبالتحديد تاريخ الحزب الحر الدستوري الجديد، عبر وسائل اتصال شعبوية، ومن ثم هي الأكثر قدرة على جعل نقاش الحدث التاريخي تعبيرا بهذه الدرجة أو تلك عن هموم الحاضر. وفي الحالتين يبدو الحزب الحر الدستوري الجديد -الذي أمسك ولا يزال بالسلطة تحت مسمياته المتنوعة- محور إعادة تفهم وتصور وتفكيك بما يمكن أن يعكس تباينات حول حاضره ومستقبله.
إن التليسي -الذي يستحق بعد شهادته لقب «جلاد اليوسفيين»- أثار الكثير من الجراح، ليس فقط لأنه اعترف بوضوح بتعذيب خصوم الرئيس بورقيبة من «اليوسفيين»، بل أيضا لأنه أنكر تهم قتلهم. أثارت تصريحاته ردود فعل متنوعة خاصة في منابر صحافية مستقلة كانت في السابق محسوبة على التيار «اليوسفي». كانت هناك مثلا ردود ضحايا وزملاء سابقين للتليسي من الذين أكدوا حدوث ما يفوق التعذيب في الموقع السيئ الذكر في المدينة القديمة لتونس المعروف باسم «سباط الظلام» (القبو المظلم) والذي بقي رمزا لدهاليز التعذيب في مؤسسة الدولة الوطنية الجديدة. لكن الأهم من بين تلك الردود الحقوقية القانونية التي ركزت بناء على «اعترافات التليسي» (المسجلة صوتا وصورة وبحضور شهود) على حق الضحايا في محاسبة جلاديهم ومحاكمتهم، حتى لو مر على الحدث عشريات عديدة، إذ جريمة التعذيب مثلما تم التذكير «لا تسقط بالتقادم». وبدا كأن الأمر خارج السيطرة عندما عبر التليسي -تفاعلا مع ردود الأفعال- بأنه «مستعد للمحاكمة» قبل أن يحاول التراجع -حسب ما شاع في الأيام الأخيرة- عن تصريحاته السابقة. هذه نقطة فارقة؛ لأنها فتحت أكثر الملفات المسكوت عنها في تاريخ الدولة الوطنية، ملف تعذيبها لخصومها. وإذا فتح ملف التليسي فإنه لن يبقى مبرر لعدم فتح ملفات بقية «الجلادين»، ولن يكون من الغريب -إذا تواصل التداول فيما يمكن تسميته الآن بـ «قضية التليسي»- أن تتشكل لجان وهيئات تطالب بمحاكمتهم بمعزل عن الزمان والمكان.
التيار «اليوسفي» تحديدا والذي مثل لعقود خلفية البديل الذي يحمل الخطاب «العروبي-الإسلامي» في مواجهة سلطة الرئيس الراحل بورقيبة، داخل الحزب ثم خارجه، كان عرضة لحملة ملاحقة وتنكيل مثلت جزءا رئيسيا من أساس بناء الدولة الوطنية ذاته. فعبر هذا الإقصاء وعبر آلياته العنيفة تم إرساء المؤسسة الردعية للدولة، ومن ثم هوية الدولة الجديدة وبنيتها، إذ أصبح كل خصوم الحزب، أو على الأصح التيار السائد في الحزب، خصوم الدولة ذاتها، ومن ثم فهم عرضة للتهميش المادي والمعنوي بشكل عام وليس التهميش عن مواقع السلطة فحسب. وكانت أوساط «اليوسفيين» هي الأوساط التي خرجت من عباءتها التيارات القومية والإسلامية في التاريخ المعاصر للبلاد ممن تعرضوا بهذه الدرجة أو تلك لنفس المصير. لكن إثر رحيل الرئيس بورقيبة عن السلطة استفاد «اليوسفيون» -وليس بالضرورة ورثتهم- من خطوات أعادت نسبيا بعض اعتبارهم بما في ذلك إعادة رفات صالح بن يوسف الذي اغتالته اليد الطولى لأجهزة بورقيبة الردعية، إلى أرض الوطن. ولكن امتدت عملية إعادة الاعتبار إلى عودة بعض «اليوسفيين» وحتى تواجدهم في مواقع رسمية بين البرلمان والمجلس الاستشاري. لكن عودة الاعتبار الأهم هي العودة القوية ثقافيا وسياسيا للخطاب «العروبي-الإسلامي» للبلاد في السنوات الأخيرة مخترقا أوساطا شعبية وشبه رسمية ورسمية أيضا. ومن المثير للاهتمام أن هذه العودة تتم فيما تتم تحت يافطة حقوقية مثل مقاومة التعذيب بما يعنيه من تهديد لثقافة الدولة كما عرفها التونسيون لعقود.
في المقابل لا يعتبر أحمد بن صالح أحد رموز التيار «اليوسفي» تحديدا، إذ رغم محاولته تحقيق المصالحة بين الزعيمين التاريخيين للحزب، فإنه أسهم في نهاية الأمر بشكل كبير في حسم الصراع داخل الحزب لمصلحة بورقيبة في «مؤتمر صفاقس»، من خلال القوة الاعتبارية والجماهيرية لمؤسسة «الاتحاد العام التونسي للشغل» الذي كان يقوده. لكن رغم ذلك فإن بن صالح كان رمزا للعلاقة الوطيدة بين سياسات «اجتماعية» طبعت ولا تزال الدولة الوطنية (فشل بعضها وليس كلها مثلما قامت الآلة الدعائية للدولة بترويجه على قاعدة تهميش خصومها إثر الخلاف بين بورقيبة وبن صالح) ورؤية «عالم ثالثية» (Tier-mondiste) تركز على محور «عدم الانحياز»، ومن ثم تلتقي بشكل كبير مع الرؤى العروبية الناصرية خلال الستينيات، مما يفسر صداقاته الواسعة والوثيقة مع نخب قومية من سوريا إلى العراق حتى مصر. إن بن صالح، أستاذ اللغة والآداب العربية والمغرم كثيرا بالشعر العربي وفي ذات الوقت صاحب الثقافة الفرانكفونية الواسعة، يمثل على غرار صالح بن يوسف تعبيرا عن النخبة التحريرية التي «جمعت بين الأصالة والمعاصرة». إن بن صالح الذي يتجنب انتقاد بورقيبة بشكل مباشر ويحترم تراث الرئيس الراحل النضالي والمؤسس في الحركة الوطنية، يركز في مذكراته على دور رموز أخرى في تحقيق استقلال البلاد. يبدو بن صالح بشكل خاص قريبا عاطفيا من «المنصف باي» والذي مات منفيا وكان يتمتع بموقف وطني استثنائي تقريبا بين أوساط النخبة الملكية من الأسرة الحسينية التي حكمت البلاد لقرون. ينسب بن صالح -الذي كان مقربا من الملك الراحل وحلقة الوصل بينه وبين الحزب- مواقف تصل حتى التعبير عن نية «إعلان الجمهورية» في حال عودته إلى البلاد، مما كان يمكن أن يجعل المنصف باي وليس بورقيبة أول رئيس للبلاد.
إن عودة الروح إلى صور وذكريات غير بورقيبية أو بشكل أخص معارضة لبورقيبة وفي الوقت نفسه مؤسسة ومشكلة لتاريخ حزب التحرير والسلطة، تحيل على تعقيد العلاقة بين التيارات المختلفة التي شقت البلاد، إذ تزاملت الشخوص والرؤى في ذات الحزب وفي ذات السلطة لعقود قبل الاختلاف والافتراق. إذ لا يمكن تشكيل الصورة ضمن حدود «الأبيض والأسود». كما أن تذكرها يشير إلى حاجة للتذكر، واستحضارها يعبر عن حاجة الحاضر إليها. حاجة النظر إلى تاريخ رسمي واتجاه سائد مجانب بعض الشيء للبورقيبية. الحاجة للنظر إلى «العروبي-الإسلامي» مثلا في سياق «العادي» والقديم وليس «الاستثنائي» والجديد. فهل سيكون لذلك تأثير على تصور الحزب لذاته وهويته ودوره؟
في كل الأحوال لا تحدث التغييرات عادة في تونس بشكل درامي، بل متسربلة في كثير من الهدوء والصمت والقليل، فقط القليل من التراجيديا. كما أن التغييرات إذا لمست الشكل وبعض الخطاب فلا يعني بالضرورة أنها ستمس المضمون. إذ يمكن للحزب -كما حدث في السابق- أن يغير جلده ومن ثم جلد الدولة، لكن لا يعني ذلك حتما تغيير جوفه ومن ثم المساهمة في تغيير جوف الدولة. وبهذا المعنى يمكن أن يرجع «اليوسفيون» مثلا أو ورثتهم، لكن من غير الضروري أن ترجع سياساتهم أو ثقافة محاسبة «الجلادين»، لكن العكس ممكن أيضا.
اهلا طارق، صحيح ان ما ثار من احاديث عن التعذيب والابادة الجسدية ليوسفيين شغل في المدة الاخيرة الكثيرين، و يجب ان يكون الامر كذلك. وعموما كلما ذكرت الحركة اليوسفية الا وتمتعت بنوع من التعاطف اولا لانها فعلا تعرضت لقمع شديد على ايدي رفاق الامس في معركة التحرير و ثانيا و هو الاهم بنظري كونها حركة سياسية ما وصلت الحكم، يعني انها تتمتع بنوع من العذرية التاريخية في اعين المجتمع اذ هي ما قمعت و ما عذبت و ما افسدت و ما فسدت. و كل ما بوسعنا هو استعمال مبدأ المقارنة حتى نعرف و لو نسبيا ما كانت ستقوم به هذه الحركة لو وصلت الى السلطة، و بما انه صحيح ان مرجعيتها الفكرية و الاديولوجية تلتقي كثيرا مع حركات كانت وقتها قوية و هي الناصرية خصوصا بالعاملين المسيطرين و هما كما ذكرت انت العامل القومي (العروبوي) و الديني (الاسلامي) فحتى نعرف بلغة اخرى ماذا خسر المجتمع التونسي مع اندثار هذه الحركة و عدم وصولها للسلطة ان ننظر الى تلك البلدان العربية التي حكمتها انظمة من نفس المرجعية الفكرية والسياسية و هي بدرجات متفاوتة مصر وقتها و الجزائر و سوريا و العراق مع ضعف المكونة الدينية لصالح المكونة القومية في هذين البلدين الاخيرين... واضح انه ما خسره المجتمع التونسي ليس كبيرا، او الاكيد انه ما خسرنا الصدارة العالمية في مجالات كالحداثة والاقتصاد المتين والحرية و و و ...
إرسال تعليق