المقال الثاني في صحيفة "الموقف" في علاقة بموضوع طبيعة السلطة السياسية في تونس (عدد 21 ماي)... المقال الأول هنا
http://www.facebook.com/notes/tarek-tarq-kahlaoui-alkhlawy/fy-alhajt-lfhm-tbyt-alsltt-alsyasyt-fy-twns/403854250801
اجدد بالمناسبة الدعوة لاقتناء هذه الصحيفة التي تفتح ابوابها للاقلام المستقلة، خاصة أنها محرومة من الدعم
عرقلة المسار الديمقراطي عبر الانتخابات و التنافسية
طارق الكحلاوي
1
يركز الخطاب الرسمي التونسي عند محاولة البرهنة على وجود ديمقراطية في تونس على وجود "تعددية سياسية" و "تنافسية" و "انتخابات" بما في ذلك "نسبة مشاركة" عالية. الخطاب المعارض ينحو عموما إلى نفي وجود "تعددية" و "تنافسية" من خلال التأشير على الأحزاب الممنوعة من الترخيص القانوني و حتى من خلال "التضييق" الذي تتعرض اليه حتى البعض من تلك المتحصلة على الترخيص. كما يقع التأكيد أيضا، في سياق دحض وجود "الانتخابات"، على أن الظرف السياسي بما في ذلك عدم وجود "تعددية حقيقية" يجعل العملية الانتخابية "مفرغة من المضمون". في ذات الوقت يتم التشكيك في "نسب المشاركة" و يتم أحيانا التلميح الى "الطابع المزور" للانتخابات.
المشكل الذي أود طرحه هنا لا يتعلق بنفي جدوى هذه الاعتراضات و لكن بأن الجدال الحقيقي يجب أن يتركز على طبيعة السلطة السياسية الراهنة خاصة من زاوية استعمالها للأدوات السياسية الحديثة. إذ أن "التعددية" و "التنافسية" و "الانتخابات"، بما هي أدوات تعودنا النظر اليها كـ"أدوات للدمقرطة" (democratization tools)، ليست مجرد صور بدون محتوى بل هي آليات فعلية ذات مضمون سياسي و من ثمة ذات فاعلية و تأثير على مسارات الواقع. و بهذا المعنى فهي ليست أدوات محايدة حتى بفرض أنها "مفرغة من المضمون" بل هي تضطلع بدور يمكن أن يصل حتى إلى مستوى عرقلة تحقق أي "مسار ديمقراطي" بما في ذلك بنسب مشاركة عالية و نتائج صحيحة عموما. و الفكرة النهائية التي أود طرحها هي أن الاعتراضات أعلاه الصادرة عن الاطياف المعارضة تحمل فهما ملتبسا لطبيعة السلطة السياسية.
2
جرت في الاسابيع الماضية "الانتخابات البلدية" في تونس. و لا أعتقد أن المشكل كان أو سيكون في "نسب المشاركة" أو صحة النتائج. هذه نقطة مهمة للغاية إذ أنه حتى لو تم بعض التضخيم في هذه النسب فإنه لا يجب النظر الى ذلك كمؤشر محوري للتدليل على مدى جدية أي انتخابات. ربما من الضروري التذكير بأن نسب المشاركة حتى في انتخابات أنظمة مثل "الصين الشعبية" و "كوريا الشمالية" لا يمكن الشك في طبيعتها "الشمولية" (totalitarian)، و ليس "التسلطية" (authoritarian) فحسب، هي فعلا نسب عالية، و هي عموما لا يوجد ما يجعلنا لا نعتقد أنها تفضي الى نتائج متطابقة مع اتجاهات التصويت.
كما أن المشكل لن يكون على مستوى "التنافسية" (competitivity) ضرورة. إذ أن بعض منتقدي العملية الانتخابية في تونس يتجهون عموما لتجاهل مؤشرات واضحة على "تنافسية" تسبق عملية الاقتراع و هي المتعلقة بالتحديد باختيار أعضاء القوائم التابعة للحزب الحاكم. و إذا اعتمدنا على المعطيات المنشورة أخيرا فحسب، في بلد ليس من السهل أن ينشر فيه الكثير عن التنافس داخل الحزب الحاكم، يمكن أن نلاحظ خلال الأسابيع الماضية في مدينة القيروان مثلا انفلات "التنافس" ليصل إلى العنف و اضطرار تدخل قيادة الحزب لتعديل قائمة المعينين. و مرت الانتخابات الخاصة ببقية المقاعد في جو "تنافسي" جدي و ليس مصطنعا. في حالات أخرى أقل حدة لكن تعكس مستوى جديا من "التنافس" وصلت الامور حتى الى إنشاء (المظيلة) أو التهديد بإنشاء (جبنيانة) قوائم موازية من قبل أعضاء في الحزب الحاكم لم يتم اختيارهم في قائمة المرشحين المعينين. في المقابل توجد معلومات أكثر كما عن الأحزاب "المعارضة" المقربة من السلطة في خصوص "التنافس" على التواجد في القوائم إلى حد الانشقاق الروتيني و وصل الأمر في الاسابيع الفارطة الى الحديث في علاقة بأحد هذه الأحزاب عن "شراء للقائمات تراوح سعرها بين 1000 و 1500 دينار" (جريدة "الصباح" 23 أفريل).
3
هذه الحالة "التنافسية" ليست خصوصية تونسية بالتأكيد إذ تأتي في سياق نمط مهيمن للسلطة السياسية في السياق العربي أطلق عليه باحثون في العلوم السياسية مثل لاري ديايموند الأنظمة "التسلطية الانتخابية" (electoral autocracies) و هو النمط الذي سأعود اليه بشكل أكثر توسعا في مرة لاحقة. الآن أريد التركيز خاصة بمناسبة الانتخابات و التنافسية على مظهر أساسي مرتبط بنمط "التسلطية الانتخابية" يطلق عليه البعض مثل إيلين لاست (Ellen Lust) تعبير "التنافسية الزبونية" (Competitive Clientelism). الوضع التونسي في هذا المجال لايزال في مرحلة جنينية و مبكرة مقارنة بما يجري في حالات أخرى تعتبر متقدمة في هذا النمط. في أقطار مثل مصر و و المغرب و الجزائر و الاردن، أين استطاع الباحثون القيام بعميات استكشاف آراء و أوضاع تسمح بتقييم معمق لما يحدث، التنافسية أكثر حدة و بروزا و هو بذلك أكثر نضجا بما يمكننا من تتبع أبرز سماته و الدور الأساسي الذي يفضي اليه.
حجر الزاوية في هذا النمط هو الدور الاجتماعي المركزي لوظيفة "الواسطة" ("الاكتاف" بالتعبير الدارج التونسي). إذ أن دوافع الراغب في الترشح و دوافع الناخب تتركز تحديدا في تأدية هذا الدور. في مصر يقع تسمية نواب البرلمان بـ"نواب الخدمة" و الاجابة البديهية على الدور المفترض لأي مرشح هو أنه "يؤدي خدمات" لسكان دائرته و ليس الدفاع عن برنامج محدد و تشريع القوانين لتحقيقه. في أسبار للآراء تمت في الجزائر و الأردن بين سنتي 2000 و 2006 اتجه غالبية المستطلعين إلى التركيز على أن مطلبهم الأساسي من النواب هو مدى قدرتهم على "التوسط" لهم للحصول على العمل أو قروض أو غير ذلك من الخدمات. هذه الانتظارات تبدو أكثر بروزا و وضوحا في المجموعات السكانية الصغيرة خاصة الانتخابات البلدية في مناطق ريفية أو بلدات صغيرة حيث يعرف الناخبون بشكل شخصي المرشحين. و لهذا تتجه نسب المشاركة في هذه الأماكن للارتفاع نسبيا. في هذه الدينامية يمكن تفهم "التنافس" ليس من زاوية توفيره امتيازات و نفوذ شخصي (مادي و لامادي) مباشر للنائب فحسب بل أيضا من حيث منحه نوافذ لاقتحام دوائر السلطة التنفيذية للعب دور "الوساطة". و بهذا المعنى تحديدا يجب النظر إلى أرقام "مكافحة الفساد" و "الشفافية" التي تتناسب عموما مع مستويات النسق الديمقراطي. إذ أنه ليس من المصادفة أن الدول التي تتميز بنمط سلطة "تنافسية زبونية" تشهد أيضا النسب الأضعف في مستوى مكافحة الفساد خاصة على الصعيد العملي و النسب الأضعف في الشفافية (أنظر في هذا السياق تقرير سنة 2008 لمنظمة Global Integrity).
هذه المنظومة تستخدم في النهاية أدوات الدمقرطة في اتجاه تدعيم أسس الوضع السياسي القائم بما أنها ترسخ الايمان بأن العملية الانتخابية و "التنافسية" تستهدف التقرب من السلطة التنفيذية لإيجاد حلول فردية لمجموعات سكانية (انتخابية) منفصلة و ليس المساهمة في تشريع القوانين التي تبقى عمليا من ضمن مهام الأداة التنفيذية في السلطة. و بهذا المعنى فإن المفارقة تكمن في أن صفة "المعارضة" هي صفة طاردة للجاذبية في ذهنية الناخب في هكذا أنظمة. و بالتالي فإن المحصلة عرقلة مبدأ التداول على السلطة و المسار الديمقراطي ذاته و استيلاب هذه الأدوات بل التمديد في سقف حياة هذه المنظومات. إذ أن بعض الدراسات الامبيرقية أوضحت أن الأنظمة السياسية "التسلطية" التي تحكمها حكومات مدنية و تؤثث بنيتها بجدار من المؤسسات التشريعية و من خلال أدوات "الانتخابات" و "التعددية" و "التنافسية" تحقق في نهاية الأمر عوامل ثبات أكثر صلابة من أنظمة عارية تماما من أي مؤسسات وسيطة. إذ أن هذه المنظومة تخلق دينامية تجعل علاقة المستفيدين من وجود السلطة أكثر رسوخا و من ثمة تتيح لها توسيع قاعدتها.
طبعا تلك عوامل الثبات. غير أنها ليست كل الصورة. و "التنافسية الزبونية" جزء جنيني من طبيعة السلطة السياسية و ليست كلها.